Saturday 16 November 2013

حشيشة الملاك

 
 



 
يومٌ آخر فى البورصة يمر ..
(- واحد ) من تلك الأيام التى "لها إبطاء المدلِ المنعم وتجنى القادر المحتكم" ..يا إلهى الرحيم ! لماذا اليوم تحديدا تأتيننى وفى ذلك المكان الدنِس ليصرعنى القنوط ذاته من الوصول إليكِ مجدّدا ؟ .."جددت حبك ليه؟" ..
آه يا نورا من يومٍ هبطتِ فيه على منزل عمّى وزوجته ..أربعة عشر ربيعاً من الزهر الندىّ تُساقِط دفعةً واحدة على وجهى الأسمر وقلبى الأخضر ..بأى قَدَرٍ باسمٍ تشاجر معى أبى ودفعنى إلى الفرار إلى بيت عمّى فى شارع بيروت لأراكِ؟ مراهقٌ يكتب الشعر الركيك ويعشق الموسيقى ,طرده والدُهُ فى ليلةٍ من ليالى الشتاء المقمرة ليلاقىَ وجهاً سيطارده طيلة حياته ! لعنةُ الرحمة التى نتلقاها بخشوعٍ كامل..ورضا بقضاءٍ قاهِر وبدعاء: اللهم لا ترد كذلك قضاء ولا حول ولا قوة إلا بالله أمامه ..!
لا تحسبى أنى لازالتُ أصلّى يا نورا ..كنتُ أصلى فى حجرة ابن عمى وصرتِ أمامى ..قِبلتى ..بينى وبينك الممر الطويل الفاصل بين صالة الاستقبال والغرف الكثيرة ..لم يكن ممرا يا نورا ..كان واحةً من الجنة وكنتِ حوراءَ عابد ..دمعةٌ رقراقة كنتُ على وشك التعافى منها عندما فرغتُ من سجودى لأبدأ الركعة الجديدة ..تعطّل لسانى عندما أبصرتُك فى مواجهتى ولم أعد أنظر إلى وجه الله الكريم .."اغفر لى يارب" ..كنتُ خاشعاً لأننى مكروبٌ ..ثم نظرتِ إلىّ ..هكذا دق قلبى دقاً عنيفاً ودفق الدم إلى وجهى فشعرتُ بحمى مفاجأة ..كانت الثوانى ممتدة وأطول من قيمتها الحقيقية ..الأمر أشبه بخِدر الحشيشة, احساس الزمن المتباطىء اللذيذ الذى عرفتُهُ مبتدئاً فيما بعد مختلطاً بحشيشة الملاك ..لا مُعادِل لكِ سوى هذا العطر.. تكلمتِ ثم تضاحكتِ مع زوجة عمى وابنتها فسمعتهما يناديانك :"نورا" .."يا وردة نادية ف بنورة "..أنتِ هى تماماً "يا أميرة على النوّار..." فختمتُ الصلاة ولا أذكر كيف ..
واربتُ باب الحجرة لأراقبكِ من بعيد وسمعتُ حديثا هامساً عنى ..عن ابن العم المسكين المطرود..انتبانى غضب مِن كل مَن قص عليكِ حكايتى ..وقررتُ فى لحظة شجاعة أن أخرج إليكن..اندفعتُ منجذباً إلى يدك الصغيرة وسلّمتِ فى ارتباك .."الكُولُون الابيض التريكو ..الحذاء الأبيض المطعّم بالورود الحمراء ..تنورتك القصيرة جدا والتى لم تكشف عن ساقيك النحيلتين الملفوفتين فى الكولون للأسف .. القميص الأحمر المغطّى بِدِبَبَة تلهو بالكُرات فوق صدرك الناتىء كبرعمين ..وجهك الذى يشبه وجوه القديسات فى الأيقونات بنَمَشٍ نُقش كالوشم فى قلبى .. و"فريد" مازال يغنى لكِ فى أذنى "يا حلو ياللى الهوى هفهف على توبك ...أغير عليك مِ الهوى وأحسد عليك توبك...مجروح ومالك دوا يا قلبى مكتوبك ...".
وقفتِ حاضنةً حافظة الكتب الكرتونية المرسوم عليها "سنو وايت والأقزام السبعة"ومشيتِ فى خجلٍ واضح باتجاه المائدة لانتظار مدرس اللغة الفرنسية فرأيتُ شعرك الأصفر الطويل يلامس أسفل ظهرك مربوطاً بشرائط حمراء وبيضاء..كيف لازالت أتذكر كل هذه التفاصيل ؟ لازال هناك خلايا حية فى مخى إذن ! ..ارتميتُ بقامتى الطويلة فوق المقعد أتعافى من رائحة "الشامبو" المنبعث من شعرك ..سألتُك بلا وعى "أى شامبو تستخدمين؟" نظرتِ فى غرور وقلتِ : "هو ليس من هنا ..من تركيا..باللبن والعسل.. "...شعرت بالذل لأننى لا صلةَ لى بالطيران ولا بالأسفار..مناديل مصر للطيران المغلفة المبللة التى كنتُ أجدها مع زملائى فى المدرسة هى كل ما تلقيتُ من الطائرة ..وصل المدرس كهادم اللذات ثم هجم على المائدة وظهرتِ بصحبة ابنة عمى بجانبه كزوج من الفراريخ الصغيرة..قادتنى زوجة عمى إلى الحجرة ذاتها ثانيةً :"استذكر دروسك..سأصنع لك بعض الساندوتشات " .
التحفتُ بالكوفية الصوفية وأغلقت الباب ثم جلستُ على الأرضية الفارغة من السجاد على"الباركيه" ملاصقاً للباب ,أقتفى أثر كلماتك بالفرنسية الرنانة التى لم أتعلم منها شيئا يذكر منذ دخلت الثانوى العام ..ضحكاتك ..صمتك ..خطوات زوجة عمى قادمة ..هرعتُ إلى المكتب وتصفحت الكتاب .."ساندوتشات جبن بالطماطم..أعرف أنك تحبها " وانصرفت ..حدقت فى الساندوتشات ..فى الجبن الأبيض وقطع الطماطم الحمراء ..لونيكِ ..التهمت الساندوتشات واحداً تلو الآخر ..كنتُ جائعاً..وجوعى إليكِ يا نورا كان هو الأشد على الدوام ..تناولتُ كراسة خواطرى وكتبتُ إليكِ خطاباً "وش وظهر" ..قلتِ لى مرة أن خطى جميل ..
عاد ابن عمى من التمرين فاقترضتُ منه الووكمان الذى نسيتُه فى غمرةِ حنقى على أبى ,ووضعت شريط "قارئة الفنجان" والسماعات فى أذنى حتى النوم ..
فى الليل حلمتُ بكِ تسبحين فى نهرٍ من اللبن والعسل ..وعطر الشامبو ذاته يملأ أنفى فى الحلم ..!
لماذا استيقظت؟
أتراكِ تعلمين أنه الحلم الأجمل فى عمرى وأنكِ أبهى ما فى عمرى؟ ..دسستُ خطابى فى إحدى كتبك بعدها بأيام وتطلّعتُ بشوقٍ إلى كلمةٍ منكِ ..لم تأتِ بل أتى أبى ليأخذنى وعدتُ إلى بيتى كمن دفنوه حيًّا ..
تعمّدتُ الزيارات المفاجِئَة غير المرتقبة لبيت عمى علّى أراكِ ..أسأل عنكِ بحذرِ فتى لا يخفى اهتمامه بكِ عمن حوله ..توالت أحلامى بكِ ..تحوّلتُ إلى الهوس ..بدأتُ أفكّر فى جدوى الحياة من دون رؤياكِ ..هل أنتحر؟ ..وحاولتُ الانتحار يا نورا ولكن كان هذا بعدما عانيتُ أعراضى الانسحابية من مخدرى الأبيض ولم أجد مالاً لأشترى الجرعة..كنتِ أكثر حناناً فى هجرانك من بودرتى البيضاء ..كتبتُ شعرى الركيك ..ونثراً طويلاً فى ولعى بكِ ..أستمع إلى أندلسيات فيروز "يا شقيق الروح من جسدى" ..قلبى يذوب ..لم أكن شيئا يذكر فى يوم من الأيام ..ذلك الأسمر الذى يحيا فى الظلال صامتاً ..
حتى جاء يوم عيد ميلاد ابنة عمى فى العام التالى أحببتُها فقط فى ذلك اليوم ..كنت مدعواً مع أسرتى وكنتِ مدعوة مع أسرتِك..وتلاقت عينانا ..رُدّت إلىّ روحى ..ارتديتُ بدلة سوداء واقترضتُ عطر أبى الفواح وملأنى الزهو بقامتى الطويلة وعينيّ الزيتونيتين,وكنتِ ترتدين تنورة سوداء واسعة تظهر ركبتيك البيضاوتين و"جيليه" مطرز بالوردى والبنفسجىّ ومن تحته قميص أبيض من القطن بياقة مستديرة صغيرة ..الجمال كلمة مختزلة لما كنتِ عليه فى ذات اليوم .."اسمك على رسمك لايق ...سبحان من ابدع رسمك ...يا ندى الصبح للرايق ...اسم الله يا نورا على اسمك ... يا ليالى العيد ...من غير مواعيد...أبو حظ سعيد ...اللى تحن عليه نورا" ..! كبرت شجرة نورا عاماً كاملاً , وصار البرعمان ثمرتين ..متى تُذلل قطوفها لى تذليلا؟ لم تكن الكراسى كثيرة فى الشرفة ..أحضرت لى ولكِ فقط كرسيين وقدّمت لكِ كرسيكِ على طريقة اتيكيت الأفلام حتى ارتكن كتفاك على أصابعى وأنتِ تجلسين ..ارتعش جسدى وجلستُ فى مواجهتك ,أراكِ على الضوء الخافت الهامس..وسألتُك وسط صخب الأصوات والتصفيق :هل قرأتِ خطابى؟ قلتِ فى تردد :نعم ..قلتُ وما رأيك؟ قلتِ: خطك جميل..ولكن لا تكررها ..قلتُ : أريد أن أتزوجك ..ضحكتِ ثم ضحكتِ ..لم أكن أمتلك طاقة للغضب منكِ ..
رحتُ أطاردك فى طريق عودتك من مدرستك , أبداً لم تكونى وحدك ..دائما يحطن بك الرفيقات ..تظهر من خلف رابطة عنقك وزرار قميصك الأول المفكوك تلك الفراشة الذهبية التى لا تخلعينها..يكفى أن أراكِ ..وأن تعرفى أننى آتي لرؤيتك فحسب ..تبسمكِ فى وجهى كان هو النعيم..فى كل مرة أكتب إليكِ خطابا ولا أستطيع أن أعطيَكِ إياه ..ضنت على الدنيا بفرحة..


ثم نسيتُك يا نورا..ونسيتُ أن أتزوج ..لم أكن فى حاجة إلى زواج منذ تخرجتُ وتقدمتُ لطلب يدك ورفضنى والدك دون إبداء أسباب ودون مراجعة ..نسيتُك يوم علمتُ بيوم زفافك ووقفتُ على الكوبرى بين ضفتيّ النيل أستمع لتلك الأغنية "ستكون ليلة طويلة" ..يومَ سافرتِ لبلدٍ بعيد ولم تعودى ..لم تكونى تنتمين إلى الطين الذى تطأه أقدامنا ..كنورٍ خطف أبصارنا وبرق فى سمائنا ثم اختفى وترك لنا ظلاماً سرمديًّا..
 
ومثل الجميع , سارت الحياة بى ..فقط تركتُها تسير بى ولم أختر شيئاً .. أبعدتنى عنكِ فابتعدتُ ..ساقتنى لعجلة البورصة فدُرت.. أدخلتنى عالم المخدرات فهرعت.. لم أقاوم ولم أسبح ضد أقدارى واستسلمتُ لنشوتى بين أحضان بودرتى ونسائى ..لماذا اليوم أتذكّرك؟


 
" جذب نفساً عميقاً ممتزجاً ببودرة بيضاء منثورة على منبت إبهامه ثم تنهد طويلاً ,وكان قد بدأ يرى خيالات لامرأة تسبح عاريةً أمامه فى نهر من اللبن والعسل ..".
 

No comments:

Post a Comment