Thursday 22 February 2018

قَص الأثر




أحاول غسل يديّ جيدًا بالصابون، وكالعادة أستخدم "البرْوة" الملقاة على الحَوض البيضاوي فلا تجود برغوتها مهما قلّبتُها في الماء، شعور منتقص بعدم الاكتفاء غير راضٍ البتة يجعلني ألجأ إلى علبة الصابون السائل المثبتة بجوار الحوض، برائحة جوز الهند وبرغوةٍ غزيرة لزِجة لا تبرح الجلد إلا بعد معاناة حك اليدين عدة مرات.. أعتني بالإبهامين اعتناءً خاصًا وأدعك أظافري في كل راحةٍ بالتبادل ولن أنسى الرسغين.. أرى صورتي في مرآة يصرّون على وضعها في غرفةٍ لا يريد من فيها أبدا رؤية أنفسهم.. تقع عيني على اللؤلؤ الذي أتممت ارتداءه على عجل وأنا أهبط السلم قبل مغادرة البيت.. العقد والقِرط والسوار حتى الخاتم.. كل شيء متناغم ومتسق ومتّفَق عليه.. أبتسم في المرآة وأنا أسترجع صورة الرجل الغريب الذي اقتحم محارتي فأفرز لؤلؤاتي.. أسحب المنديل الثاني الملفوف لا الأول المتدلي المتوفر لتجفيف اليد، وسأحرص ألا ألمس سطحًا ملوثًا ولا حتى صنبور المياه عند إغلاقه.. كل شيء ملوث.. أرتدي القفاز المعقم وأستعد لمقاومة شعور قوي بالحَكّة سأعاني منه طوال اليوم بسبب بودرة القفاز الطبي.. حان الآن وقت الابتسامة العريضة النظيفة فوق وجهي..!
كل شيء في مكانه وجاهز للقيام بدوره المنوط به.. المريض في لباسه الأخضر ينتظر.. يحاول أن يستتر تحت الغطاء الأبيض.. تصطك أسنانه رعبًا.. الشابة الجميلة الباكية تريد أن تبقى.. تجبرها الممرضة على الخروج، وبلذةٍ بَدَت بوضوح على وجهها قالت: ممنوع، وأحكمت إغلاق الباب.                                
"لا تقلق سنبدأ بالمخدر الموضعي فلن تشعر بشيء"..
 جملة متكررة أؤديها باحتراف، أنتظر ردة فعل متوقعة تمامًا:
"مخدر للشاه قبل ذبحها؟!"..
كلكم يُظهِر الحكمة في تلك الحجرة.. على السرير ذاته.. من المؤكد كذلك أن جميعكم يرحل عن هنا ثم يعود مرة أخرى أكثر حكمةً.
لا يهم.. سأستمر في الابتسام.. بل وسأضحك على نكتة الشاه.. أتحسس الآن عظمة "القَص" في منتصف صدر الشاب النحيل، حان الآن وقت "قراءة الطالع"!  ولكنى وكما قال الشاعر "أحتاج دمع الأنبياء لكى أرى" ، "قُصي" علينا يا سيدتي من أمرِ الأسمر.. تهبط أناملي درجةً درجة إلى أسفل على جلده البنيّ اللامع، حتى الوصول إلى الجزء المنشود.. النتوء العظمي الملقّب بالرّهابي! من فضل الله أنهم لا يسألون أبدا عن اسمه.. ها هو تحت سبابتي تمامًا.. هنا نبدأ – بعد التعقيم والتخدير - أعمال الحفر والتنقيب..
-"هل اليوم هو الثلاثاء؟" 
سألتُ المريض المرتعش والذي يخفي شحوبَه سمارُه وأنا موقنة من الإجابة.. "أجل.. اليوم هو الثلاثاء".. قالها بسخريةِ من يريد أن يقول: وهل هذا وقته؟ أعرف أنها محاولة خائبة منى لتشتيته.. لكن ماذا عساه يفعل الطبيب أمام كل هذا الهلع؟ أود لو أشرح للشاب المرتعد كيف نجحت نصيحتي لمريض كان يعاني من تضخم البروستاتا.. في الحقيقة لم تكن تلك معاناته.. بل كانت في عدم قدرته على التبول.. علّمتُهُ كيف يلعب "السودوكو" جالساً فى دورة المياه وعندما ازداد التضخم وكان قد حَفِظ كافة نماذج اللعبة، علّمتُهُ "الكاكورو" الأطول والأصعب..من المفيد أن يتعلم الإنسان الصبر ولكنه كذلك فى حاجة إلى تعلُّم عدم الانتظار..                                                           
من الضروري أن يدير وجهه كيلا ينظر إلى سيخ حديد مدبّب ينغرز في عظمِه ولابد من تفقّد مدى حدة السِّن الذي يكفل لي دخولًا سهلًا وخروجًا آمنًا من تلك الفِعلة التي يراها الشاب ذبحًا له، "هل تحب يوم الثلاثاء؟"، جاوب متململًا: "لا.. أكرهه.. أكرهه جدًا"..
"وأنا أيضًا.. منذ أيام المدرسة.. كان أطول أيام الأسبوع.. تسع حصص!".
الدخول في خطٍ مستقيم، يمينًا ويسارًا وبدفعٍ إلى أسفل.. هل هكذا تعمل "برّيمة الحفر"؟ أحاول أن أجد شيئًا مشابهًا بيني وبين مهندس البترول، العريس الأخير.. أعاني ضعفًا مزمنًا في قبضة يدي، لا أقدر على التمسّك بشيء، وهو مرضٌ عضال لا شفاء منه، ولكنه لطيفٌ مع المرضى الذين لا يشعرون بألم من إثر قبضتي الضعيفة تلك، لطيفٌ أيضًا مع البشر الذين لا يشعرون بي..
 قال لي يومًا ما مهزومًا: أنا شخص سيئ الطباع، ويتمسك فقط بكل ما هو داكن وساخن..! منذ ذلك التاريخ -ومن بعده- لا أذكر أنني تمسكت بشيء سوى القهوة..!
أشعر بمعاناة المريض مع الحيرة فلا يستطيع ألا ينظر إلى ما أفعله بجسده، وليس بمقدوره ألا يتخيل كونه – فعليًا - لا يشعر بألم، أعرف جيّدًا ما يدور برأسه وهو يحاول أن يغض الطرف عن السِّن الذي غاب في لحمه والهواجس كافة التي تتعلق باختراق قلبه ونزفه حتى الموت، أشرد أنا أيضًا "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"، في رجلين زعموا أن لكل منهما قلبين، وفي الاعتقاد الجاهلي بأن القلب محل العقل، الآية التي لا علاقة لها بعدم قدرة رجل على حب امرأتين في وقت واحد، وَلكَم هو مريحٌ أن نفسر تلك الآية تفسيرًا خاطئًا..
السن عالقٌ الآن في العظم، مثلما عالقة أنا في الماضي، سأجذبه من داخل الحقنة وامتص النخاع، لا بدَّ من تنبيهه بما سيشعر، انسحابٌ ما، هذا المريض ملهِم، للمرة الأولى أفهم لماذا أعشق مهنتي.. ها هي آهة الانسحاب الأخيرة قبل أن ينتهي كل شيء، وكم أغبطك أيها المريض، فلربما انتهت مأساتك بشفاء أو بموت.. هذا منصف جدًا.. ولكن من أين تأتي تلك الأغنية؟ :"في قلب الليل.. وعزف الصمت مِتْهادِي كموج النيل.. في قلب الليل.. وبرد الخوف بيتكتِك سِنان الخيل".. يريد المريض أن يرد، لن أدعه يفعلها.." وما في حد في الشارع.. سوى مُهرة رباب جازع.. في شجرة سنط.. وأنا والصمت.. وبرد الليل وخوف الليل..".. أرجوك أوقف تلك المعاناة! وانزع عني هذا السكين!
فاضت بعض الدماء من القناة التي صنعتُها في جسد مريضي، سأضغط على الجرح حتى يتوقف الدم، لا تخف، هذا مؤقت، ستنسى كل شيء، هكذا يقولون.. عندما جُرح إصبعي جرحًا قطعيًا نصحني بوضعه في الماء المملح: فقط تحملي الألم وسيندمل الجرح سريعًا.. مريضي العزيز لن أخبرك أبدا بأن الشيء الوحيد الذي لا وجود له هو النسيان!
ضمادة بيضاء.. أغطية بيضاء.. معاطف بيضاء.. ذاكرة بيضاء!
قُم إلى فتاتك وانتظِر نتيجة الفحص..
"أنا أيضًا أكره يوم الثلاثاء بشدة..".. قلتُها له قبل أن يفارق الغرفة فنظر إليّ باسمًا ومتعجبًا: "شكرًا دكتورة رباب مرة أخرى.. لم أشعر بألم"..                        
"هل كان المخدر ذا جدوى قبل الذبح؟"..                                     
ضحك مريضي الأسمر فاتحًا الباب فأضاءت أسنانه البيض وجهه وظِل فتاته ينتصب من خلفه.. يدق هاتفه بالأغنية ذاتها فتغيب عن الحاضر ببطء وهو يغلق باب الغرفة بينما تتشبث الفتاة بذراعه، أخلع القفاز المدمّم وأنظر في المرآة فأجد ما لا أريد رؤياه، وأغسل يديّ بالبروة مرة أخرى، فلا أشعر بالرضا كالمعتاد، تلتصق بي لزوجة جوز الهند وأنا أردد بقية الأغنية في حضرة الغياب الذي لا يغيب: "وكان في جيده قيد جارحه.. وقيد في جيدي ما لمحه.. لكن حاسُّه.. أكيد حاسُّه"...

من مجموعة بيت اللوز/ تصدر بعد أيام.

Sunday 14 January 2018

تثبيت أكتاف



تُرى ما الذي حدث يوم أصبحت فيه النساء بأكتافٍ عريضة؟

لا نستطيع القول بأن ذلك قد حدث بشكلٍ مفاجيء، بل بات يتسلل على مدار سنواتٍ طويلة، فبعض الأمراض لا تُستشعر وطأتها أو تكتمل صورتها إلا بعد هيمنتها على سائر الأعضاء، وعادةً ما يكون الوقت متأخراً لتدارك الأمر .ربما كان هذا أشبه بتحولات فيروس الإنفلونزا الصغيرة التدريجية والتي تؤول إلى تحولات كبرى تفقده شكله القديم، "تحتار" الأطبا" و"الأمصال" فيه، كمن قام بـعمل(نيو لوك) وأصبح من الصعب التعرف عليه.  لن نقدر بالطبع على معرفة أول امرأة بدأت عندها تلك الظاهرة الغريبة لندرس تطورها وتحولها من كائن أنثوي رقيق بكتفين مستديرتين تنتهي إلى كل واحدةٍ منهما  عظمة ترقوة رشيقة يسمونها عظمة الجَمال، إلى ذلك الشكل
.الصادم المغاير الشبيه بحاجب (الجبن النستو)

نفكّر الآن ونتأمل كيف حدث ذلك؟ هل كان هناك تأثير للأكتاف الاصطناعية أو (الأوبليت) والتي باتت موضة سائدة في الثمانينيات من القرن الماضي؟ وكأنها (حَواية) للكتف، تشبه حواية الرأس التي تحمل فوقها الست من دُول القدور والأواني والزِلع، هل كان ذلك تمهيدًا ناعمًا مبطّنًا بالاسفنج لكي تستعد الحُلوة لعملية التطوّر التي لم تكن في الحسبان؟

النساء ينظرن إلى أنفسهن ذاهلات، غير قادرات على التعبير بالكلام، لقد مضت سنوات قبل أن تلاحظ أيُّ منهن استطالة كاهلها بهذا الشكل المخيف، لحمه (جالس)، تتحسه بأناملها الخشنة فلا تقدر على الغوص فيه، الحكاية ليست كبراً، فكلهن قد مررن بالعجَز في مرحلةٍ سالفة لهذا التطور، بل يؤكد الجميع أنه حدث بالفعل وبشكلٍ أسرع من ذي قبل..لقد تجاوزن التجاعيد وارتعاش اليدين والضغط والسكرى ومتاعب القلب، وآهٍ من متاعب القلب وما فعلته بهن ،مرّت سنوات عليهن كانوا فيها مثل لحم الدجاج "العجوز" إذا سُلِق مرّات حتى تمام النضوج، فيخرج بنسيجٍ يتفكك بين الأصابع،  فقدَن مع الوقت ميزة اللحم الطريّ  . ولا يسألنّ أحد من أين أتى هذا التعبير "الستّاتي المتستّت": (اللحم  الجالِس) الذي لا يعبر عن معناه

شردت كل واحدة منهن مع ذاتها، تستحضر حوادث الكَتِف التي مرّت بها، ومن المثير للسخرية أن الكتف هي التي استطالت بينما العين بصيرة واليد على حالها قصيرة، على الأقل بيدٍ طويلة كان من الممكن أن تلمس أحلامها البعيدة، أحلامها التي لا تخصها في الأغلب، وتحيا على أمل أن تفرَغ منها إلى غيرها!  ولكن كيف حدث هذا وبعد أن أُكِلت تلك الكتف مئات المرّات؟  جديرٌ بالذكر،كلهم عرف من أين تؤكل الكتف..الآباء والإخوة الذين حمّلوها منذ الصغر أوزاراً لم تفهمها يوماً، كلما كسروا لها ضلعاً نبت لها أربع وعشرون في الكتف. الأمهات اللاتي أورثنهن تلك الطفرة وما يستجد من طفرات الله وحده أعلم بها..يمر بخاطرهن الذكور الذين لم يستخدموا أكتافهم العريضة بالفطرة أبداً، ربما حدث لهم أيضاً خللٌ ما في تكوينهم الـجيني حيث الأكتاف في هشاشة الكيك الإسفنجية برغم محاولاتهم المضنية للحصول على (فورما) في الصالات الرياضية، ولكنها لا تقوى على حمل مسئولية بيت وزوجة وأولاد، حيث منهم من تعدّى الثلاثين من عمره ومازال في الحضّانة الزجاجية يقدّم إليه ما يحتاجه ولا يطلب منه سوى البقاء حيًّا و "كول" و"فريش".

في الشارع والباص والميكروباص والعمل كانت عملية "تثبيت الأكتاف" تتم لهن كلَّ يوم، التحرش اللفظي والجسدي والوظيفي، إعاقة كل مقدرة لديها لكي تبقَى وترتقي، فكان رد فعلها الطبيعي والمنطقي هو هذه الطفرة بحسب ما يراه داروين، فإن الأفراد الذين يمتلكون صفات تمكنهم من التكيف مع البيئة الخارجية لديهم معدلات أعلى للبقاء على قيد الحياة من الأفراد الذين لا يمتلكون هذه الصفات.

 كل المحاولات لتفسير ما حدث لهن لم تكن شافية، وشرعن في إيجاد حلول لتلك الظاهرة الأولى من نوعها، هل تكف الواحدة منهن عن جحيم "الدايت" وتترك جسدها للامتلاء والتضخم وتسلمه لجراحات التكبير والنفخ لكي يتناسب مع حجم كتفيها الجديد؟  أم تُراهم اخترعوا عمليات شفط أكتاف؟  وفرد للحظ المجعّد مثلما يفرد الشعر بالبروتين؟ أم تستعين بحواية للكتف لتستمر في حمل ما لا يحمله أحدٌ سواها أو عنها وتكبّر دماغها وتنفّض ودانها لما سوف يقال عن النساء اللاتي قد فقدن أنوثتهن بين عشيةٍ وضحاها؟






Wednesday 22 November 2017

زمن الصبّار


قبل النزول من البيت، عندما يصبح النظر في المرآة شبه حتميّ، وبرغم السنوات المحفورة في ملامحي، والطرحة الحمراء التي قررتُ ارتداءها في هذا اليوم بلا قصد، تذكّرتُ فتاة عيد الحب، التي تعاقب عليها أعيادٌ قضتها كمراهقة يُكتَب إليها الشعر الركيك المفعم بالمشاعر الجامحة، والذي تفوح من أبياته روائح هرمونات البلوغ الطاغية، أيامٌ أُخَر قضتها في ظل رجلٍ تعشقه، تبادلا الهدايا الثمينة، عندما كانت الصور هدايا ثمينة.. وفي غيرها كانت تتعافى من عشقه، ثم كانت أيام الظلال أو استراحات المحاربات -كما تسميها- بدون رجال، وفي أعيادٍ أخرى مع أنصاف أو حتى أرباع الرجال، بل ومع خِناثٍ أيضاً..
والخناث هنا لم تكن بالطبع الزهور الجميلة مكتملة النضج والتي تحمل أعضاء الذكر والأنثى في نفس الوقت، بل تلك الكائنات المترددة بين الشيئين، التي يُفعل بها ولا تفعل أبداً، ذات المواقف المائعة، كائنات تشبه السياسيين في دول العالم الثالث.
ثم هَجرَت أعياد الحب لفترة طويلة، فكان عيدها يوم رأت فلاناً لأول مرة، أو عندما صارحها علّان برغبته في الارتباط بها، تتذكر تلك التواريخ كبراهين قاطعة على أنها ستظل امرأة محبوبة ومرغوبة على الدوام حتى ولو لم تكن تسعى للحب..
وكان يأتي الحب من دون أدنى استثارة منها، فلم تكن تلعب في أذن الوحش النائم، أو تجرؤ على دخول كهف التنين، التزمت بكل ما سنته الشرائع كي لا تلفت الأنظار إليها، وأحاطت روحها بخجلٍ طويل الأمد يصل إلى حد الإنطواء، ودّعت الفتاة المنطلقة التي تمشي بشعرٍ مفرود لا تجتهد في تخبئة ما أراد أن يظهر منها رغماً عنها، فكيف تخفي استدارة نهديها النافرين أو حلمتيها المنتصبتين في البرد الشديد من خلف حمالة الصدر الطريّة؟ ودّعت الفتاة البكر التي كانت تتعامل مع جسدها كجسد امرأةٍ حبلى لا يمكن أن تخفي جنينها عن الأنظار، ولا تريد ..فليس هناك عيباً في امرأة حبلى ولا أنثى جميلة..
لم تسلَم أيضاً هذه المرّة، فطرق المحبّون بابها بعنف تارة وبأدب تارة، ومنهم من استطاع التسلل من الأبواب الخلفية فسرق اهتمامها ثم حبها أيضاً، فأعادها بلا شفقة إلى جحيم الظلال من جديد..
صحت من نومها ذات يوم..وبالتحديد ذات عيد حب..أمام نفس المرآة التي تقف أمامها الآن لتكتشف أن دفترها فارغ تماماً.. أنها لا تحمل في قلبها ذكرى جميلة واحدة لأحدهم لم تُلوَّث بالنوايا السيئة، اجتهدت كي تتذكّر، حاولت مثل كل بطلات الأفلام فاقدي الذاكرة أن تجتر أي تاريخ، تبحث عن كلمة أو ورقة تصلها بماضيها المفقود في كل أعياد الحب السابقة التي طالما احتفلت بها فرحاً وحزناً، حضوراً وغياباً، فأدركت أنها أخيراً قد شُفيَت من آثام محبيها، وأن ملائكة النسيان قد محتها من صحف الأعمال..
في هذا اليوم تحرّرت من هواجسها ومخاوفها، أيقنت أنها وهي في الثلاثين من عمرها قد أدركت بلوغاً عقلياً لطالما رفضه جسدها، كان قد تحوّل قلبها لقطعة من البلاستيك تضخ الدماء بانتظام، تصادف أن رأت فيلماً من أفلامها المفضلة (أربع حفلات زفاف وجنازة)، استمتعت بالفيلم كأنها تشاهده لأول مرة، و نسيت تماماً أن ‘‘هيو جرانت’’ كان يذكرها بالخِناث في حياتها السابقة، لا في هذا الدور فقط بل في أغلب أدواره، الرجل غير الواثق أغلب الأحيان، المحبط أو اليائس، أو المهزوم، أو المتعجرف، والذي لا يدرك قيمة امرأته إلا في تلك النظرة الأخيرة لها وهي نائمة بعد وجبة حب شهية، في الصباح وضوء الشمس يصافح وجهها، وهو مضطر لتركها!
هكذا كانت مستعدة للزواج، بلا قلبٍ قد يتألم لهجرٍ محتمل وبلا عقل متخم يؤرقها بالمقارنات، تزوجت فحاولت على طريقة الكيمياء أن تعادل كوابيس الخاتم الذهبي في اليد اليسرى بخاتم فضيّ في اليمنى يدرأ عنها تلك الأحلام المستحيلة التي سقطت في براثن الدبلة الذهبية..
ومرّ أول عيد حب، حرصَت على شراء هدية ثمينة بمفهوم العصر، وزهرة اصطناعية بديعة المنظر في أعلاها قطعة من الشيكولاتة بالمفهوم الذكوري المادي الذي لا يفهم الهدايا التي لا تؤكل، كان حصاراً وليست هدية، محاولة لسد أي فرصة للتقليل من شأن ما أهدته إياه أكثر من حرصها على أن تعجبه الهدية فعلاً، هل كان السبب في أنه لم يكن يفوّت فرصة واحدة لانتقادها؟ طباعها، وزنها، وحتى رائحتها؟ أم كانت -مسبقاً-تتوقع رد فعله حيال أي هدية ؟ كانت تعلم أن رد فعله لن يختلف عن الطريقة الباردة التي يعامل بها أنثاه، أو التي يعلّق بها على الطعام الشهي الذي وقفت تعده لساعات، صوتٌ كان يدويّ بداخلها ويخبرها بأن هذا رجل لا يمكن إبهاره..
في الوقت الذي كانت تظن فيه أن زمن الدهشة قد ولّى، فلم يعد هناك شيء بمقدوره أن يفاجئها، وجدت أمام باب بيتها ثلاث أصص، اختبأ زوجها خلف الجدار ليراقب رد فعلها عندما تفتح الباب وترى هديته: هدية عيد الحب!
اختلطت مشاعرها، لا ريب أنها فرحت في باديء الأمر، مثل الانتعاش الذي يولد مع بداية العطر، ثم أعقبت فرحتها فترة من الارتباك العاطفي، مصحوب بعدم القدرة على التمييز إذا كانت تلك الهدية تبعث على الفرح أو الحزن، ثم خاضت -وهي واقفة تقلّب الإصص- مرحلة التبرير: ‘‘على أي حال أراد أن يهديني شيئاً حيًّا’’! وبعد أن فشلت في إقناع عقلها بأنه لا عيب أن يهدي رجل زوجته في عيد الحب ثلاث إصص من الصبّار، صمتت، بينما دخل الزوج متعرقاً كعادته يقبّلها قبلة واحدة لا غير في خدها، حملت الإصص الصغيرة بحرصٍ شديد، خشيةَ أن تقع أي منها وخشية أن توخزها إحدى الكرتين الممتلئتين بالشوك، وتأملت الثالثة التي بدت ملساء دون شوك ظاهر، شردت: ما الذي جعله يشتري لها الصبّار؟ لقد قالت له بالفعل أنها تريد شراء بعض إصص الزهور وعددت أنواع النباتات التي تحبُّها، حاولت أن تتذكر إذا ما كانت قد تحدثت عن الصبّار فعلاً، تشككت في روحها ثم أجابت بعد برهة: بالتأكيد لم أفعل! ما الذي يدور في عقل رجل لا يبهره شيء مطلقاً يشترى ثلاث أصص صبار لزوجته في عيد الحب؟ هل يريد أن يدفن هذا الزواج على طريقة المصريين الشائعة؟ أم يريد أن يغذي روحها بالصبر؟ أم يبلغها بشكلٍ غير تقليدي بأن الرجل الذي لا يبهره شيء مطلقاً مازال في جعبته صبرٌ عليها؟ أم الأمر يتعلق بالأشواك؟..فاحذريني أنا وخّاز عند الاقتراب أكثر! أم أنا هذا الأملس دون شوكٍ ظاهر ولكني أعرف جيّداً متى أفرزه في وجهك؟
اعتنت بالصبّار عنايةً خاصة، كأم ابتليت بثلاثة أطفال منغوليين، وبعد أيامٍ معدودة  وجدت زهرةً بيضاء تخرج من أحدى الكرتين الوخازتين، كانت زهرةً في طريقها لتكون خنثى مكتملة النضج :ذكر وأنثى في آنٍ واحد!
المضحك في أمرها ما قالته لوالدتها التي تعرف شغفها بأعياد الحب، وطقوس انتظارها وتجاهلها، وهداياها ، أخبرتها بأنه اشترى لها ثلاث إصص من الصبّار النادر، كانت قد رأته في إحدى برامج ناشيونال جيوجرافيك وأبهرها بشكلٍ لا يصدق، وأنها تلح عليه في السؤال لتعرف من أين أتى بهم وإن كان قد دفع مبلغاً كبيراً من المال لجلبهم من خارج البلاد!



كُتبت في يوليو 2015 /مجموعة إنفلونزا -مجموعة قصصية 

Thursday 6 October 2016

طه وزكريا -جزء من فصل -الفيشاوي




۱-۱-۱۹٧٣
دفعة٦٣.
طابور التخرج.
أقف كنقطة تُكوّن حرف صاد في كلمة "مصر".
دبيب خطواتنا يهزّ أرض الكلية.
زغاريد...زغاريد...
"الملازم الذي سوف يتم تخريجه، معناه أنه ملازم لوحدة لا يغادرها أيّاً كانت الأسباب."
نجلس صامتين في إحدى عربات الجيش، تنقلنا من العباسية باتجاه شمال شرق، تُرى على مَن يأتي الدور؟ مَن يتركنا ويرحل إلى حيث لا يعلم؟ تتوقف العربة ويُنادَى على أحدنا. يسلّم سلامَ موّدعٍ ثم يهبط في هدوء. نظلّ نشيّعه بنظراتنا حتى تبتلعه الرمال وتلقمه الشمس.
أتّقي نظراته المتسائلة، لا يقوى هو كذلك على التحديق في وجهي، كل منا يعلم جيّداً أنها ربما كانت المرة الأخيرة، ربما كانت نهاية الرحلة الشاقة. ما الذي يجب أن أتذكّره يا صديقي وما يستوجب النسيان؟ عندما نوديَ علينا ضمن المقبولين أول مرة؟ أم ذكريات عام كامل في أحضان النيل الأبيض؟ هل أنسى القفزة الأولى بالمظلة وأنا أراقب جسدك يسقط في الهواء قبلي؟ أم أنسى "علقة الجنينة" في فرقة الصاعقة والتي بدلاً من أن نتلقّاها على أيدي المعلمين لقّناهم إياها فنُقلوا إلى سلاح الخدمات الطبية؟
"كسفريت"!...
وصلت قبلي يا أخي. دوماً ما تسبقني!
حسبتُ وأنا أضمّك أنني لن أراك ثانيةً، أخفيتُ عبرةً ثم تركتُها تهبط بمجرد نزولي من العربة، مشيتُ ولا أدري ما ينتظرني على حافة هذا البحر!
مرّت شهور كسنواتٍ طويلة، يداعبنا فيها الأمل وتأخذنا الأحلام إلى الشاطئ الآخر، ثم تعيدنا الحقيقة المرّة إلى ليالينا الحالكة.
في الإجازة الأخيرة، خرجنا للنزهة في شارع الترعة مع يحيي، اشتريتَ ساعة "بارلوكس" وراديو "ترانزيستور"، أول ما نسمع صوتُ أم كلثوم وهي تصدح بقصة الأمس.توقفنا أمام عربة "عم عربي" الحلواني والتهمنا البليلة المخلوطة بالبسبوسة بنهمٍ كبير. عدنا سيراً فوق قضبان السكة الحديد ووجدتُ تلك البرقية في انتظاري من القوات المسلحة المصرية بضرورة العودة إلى وحدتي. كانت قد وصلتك مثلها أيضاً، فعرفتُ أنها الحرب. من بعد السحور صلينا الفجر في المسجد، تنسّمتُ هواء العزبة فغذّى صدري، أودّ لو أني أحبسه فلا يغادرني ثانيةً. هل هذا السلام بالفعل وداعٌ أخير؟ حصار من دموعهم وصيحاتهم ووجوههم يسيّجني حتى "كسفريت". صوتك كالعادة يصطحبني إلى نهاية الرحلة.
مرة ثانية... مرة أخيرة.
جزيرة البلاّح... اللواء ۱٣٦ مشاة ميكانيكي.
سبتٌ آخر، يختلف كثيراً عن كل أيام السبت التي عانيتُ منها منذ جئت إلى هنا،إذ كانت تصل الحافلة الكبيرة إلى النقطة ٥۱ الإسرائيلية على الضفة الشرقية، فتهبط منها الإسرائيليات المتطوعات بالجيش للترفيه عن الجنود بصحبة كميات كبيرة من الطعام. سبعون متراً فقط تفصلني عن هذا الجحيم، عن سبابهم ومناداتهم لي باسمي الذي لا أدري كيف عرفوه.يصعد جندي بصحبة إحدى الفتيات إلى أعلى النقطة القوية، يقبّلها ويطوّق جسدها ويعتصره أمامي بشبق، عيناه ترمقانني، ترقبان غضبي واحساسي بالقهر،ممسكاً بثمرة تفاح يقضمها ويلوّح بها ويصيح بي:
– هل تعرف ما اسم هذه الفاكهة؟ ترى متى آخر مرة رأيت فيها امرأة؟
آخر مرة أيها الخنزير... آخر مرة!
كُلِّفت بالإشراف على حفر خندق مواصلات بطول الجزيرة طوله حوالي۱۱كم، وكانت المهلة المحددة ثلاثة أيام فقط، خبّأنا فيه كل الأسلحة والذخائر والصواريخ المالوتكا (فهد) المضادة للدبابات والقوارب المطاطية اللازمة للعبور.
وصل في حوالي الساعة الواحدة ظهراً عدد من قادة الجيش الإسرائيلي إلى النقطة٥۱، وقضوا وقتاً يراقبوننا بمناظيرهم. عرفتُ ساعتها أنهم موقنون من هجوم الجيش المصري الوشيك.
صدرت الأوامر للكتيبة ٥٣٧ باقتحام المانع المائي لقناة السويس عن طريق القوارب المطاطية واقتحام خط بارليف الحصين وتدمير ما به من أسلحة ومعدات والاستيلاء على النقطة القوية وما خلفها حتى الوصول إلى مسافة من ثلاثة إلى خمسة كيلومترات من الشاطئ،وبالفعل حملنا معداتنا بداخل القوارب واحتضنت مياهُ القناة مجاذيفَنا. أطلق العدو قنابل "الهاون" من كل جانب، ويالعجبي! عبرت سريتي المكونة من ثلاثة قوارب بأمان دون أن يُصاب أحد. بسطنا السلّم الخشبي على الساتر الترابي المائل،وبدأت عملية الصعود بالأسلحة والمعدات الثقيلة، فيحمل الجندي من جنودي مدفع يزيد وزنه على ٢۰۰ كجم، بينما عادت القوارب السليمة إلى الضفة الغربية مرة أخرى لنقل بقية القوات.
"احفر أو مُتْ".
هكذا كان يجب أن يحفر كلٌّ منّا لنفسه حفرةً للاختباء فيها. صبّ العدو لعناته فوقنا، وانهمرت قنابل الألف رطل كالمطر فوق رؤوسنا. صحتُ بأعلى صوتي فى جنودي وأنا أضحك:
–يضمن كلٌّ منا الآن ميتةً فاخرة، فيستشهد بفعل قنبلة ألف رطل تفجّر المياه الجوفية فتغسل جسده بالماء البارد ثم تحفر له قبراً عميقاً تدفنه فيه بعيداً عن الأيدي العابثة.
قاتلنا بضراوة، استشهد ثلثنا، ونجحنا في الاستيلاء على النقطة القوية. فتحت المبرد فكان التعيين كما هو،وعرفتُ أنه مازال هناك عشرون جندياً في الأدوار العليا من عدد الدجاجات التي بداخلها فيُصرَف لكلٍّ منهم واحدة.فتكنا بهم وصعدنا فوق التلال العالية نصيدهم كالخراف ونوجّه ضرباتنا إلى دباباتهم ومدرّعاتهم بلا رحمة.
من أعلى أبصرتُ ما لا يمكنني تصديقه: أشلاء بشرية منثورة فوق رمال تغطيها الدماء، تطفو بحمرتها فوق زرقة مياه القناة،يتساقط جنودنا الواحد تلو آخر، الميدان حالك السواد. لا وقت للبكاء، الحزنُ في تلك اللحظة ضربٌ من الرفاهية،ما لا يمكنني تصديقه أنني أبصر كل هذا! مازلتُ حيّاً إذاً يا صديقي!
لا أستطيع أن أفهم لماذا فعل"عَبّودة"ذلك؟ عندما رأى دبّابة تتحرك نحونا أخذ الـR.P.Jوهبط من أعلى التلّ وظلّ يصيح "الله أكبر... الله أكبر". كان يجب أن يبقى في موقعه.في تلك اللحظة لم يكن هذا عبودة الجندي المقاتل فحسب، كان ذلك الدرويش الذي كنتُ أضبطه في الملجأ الخاص بي يطوف حول نفسه راقصاً على إيقاع تواشيح الذكر المنبعثة من الراديو كاسيت الخاص بالوحدة؛ هو نفسه عبّودة القناوي الذي اختفى تماماً ولم يتبقَّ منه الآن سوى بقعة داكنة وخوذة وشريط كاسيت لحلقة ذكر مازال في المسجّل.
جُنَّ جنوني وهم يحاولون اقتحام النقطة الحصينة بعد استشهاد عبودة. طلبتُ من الرقيب إلهامي أن يغطّي ظهري وتحرّكتُ بسرعة في خط متعرّج إلى أسفل كي أتّقي ضرباتهم الكثيفة،أتلفْتُ دبابة بقنبلة جعلتها كرة من نار، ولكن دماءً تسيل من رأسي، أسقطُ.كان يجب أن أعود إلى أعلى التل، لا بدّ من العودة يا رفاق... لا بدّ.
عادت الأرض إلى أصحابها، ولكنّ الخطر مازال مستمراً، يأبى العدو التسليم. مرّت أيام لا نبرح فيها مواقعنا، ولكننا علمنا بتحرّك بعض قواتنا إلى المضائق. أدخل السرور إلى قلبي مشاهدة المزارعين في "كسفريت" يصعدون أعلى النخل لجمع التمر في موسم الحصاد.فجأةً سمعت أزيز طائرات العدو تحلّق فوقنا، وبدأنا نتأهّب لمعركة جديدة رغم عدم الاستعداد لخوضها.
ترابض دبابات الصهاينة بين أشجار المانجو في "الدفرسوار"،تطلق قذائفها بجنون، كل شيء يقاوم حتى الثمار التي تعوق مسارها وترفض عبورها. تريدون عبوراً إلى الضفة الغربية أيها الحالمون؟! ومَن سيسمح بذلك؟تلفظكم الأرض بما ومن عليها.
اشتد الحصار. يهاجمنا العدو بضراوة. ننتظر الإمدادات.أسر اليهود جنوداً ومزارعين عُزّل من السلاح. رأيتُهم يبحثون عنّا في كل مكان كالكلاب اللاهثة. أخفى الفلاحون رجالنا بينهم، خضّبوا أيديهم بالطين والروث لتصير خَشنة كأكفّهم فلا تُعرف هوياتهم. شرعوا في السطو على المحاصيل والزرائب فراح المقاومون يكبّون الجوالات بما فيها على الأرض ويُطلقون البهائم كي لا يظفر بها المجرمون.

بدأ الضباب يحلّ فجأةً مع صوت إطلاق القذائف الأخيرة، سحابات رمادية كثيفة تطوّقنا.أريد نفساً واحداً،لا أجده، الدخان يحجب كل رؤية ممكنة، لا يريد الصوت أن يخرج، وجسدي أثقل من رمال سيناء كلها. احملوني إلى البحر، واتركوني ساعةً في حجر أمي، افتحوا الأنوار وشقّوا عني هذه الظلمة، أفسحوا الطريق لرائحة المانجو الشهية، حِلّوا عني أغلال الجسد وأطلقوا روحي لتشأم في هواء بلادي غير المسموم.

Thursday 16 June 2016

طَهَ بين بُوهُؤ و بُنّة -جزء من فصل -رواية الفيشاوي


قبل أن تصرخ أمي صرخةً أرجفت إخوتي كان أبي يدخّن النارجيلة ويغنّي بصوته الجميل،بينما كنتُ أنا أتأهب للخروج إلى الدنيا، يلفظني البيت الذي مكثتُ فيه تسعة أشهر بعنفٍ وغضب، لم يكن رأسي الكبير يريد الخروج، وبدا متشبثاً بالمسكن المائي الآمن، أصابع خشنة قوية عملت على جذبي إلى أسفل،ساءني أن تنتهي معاناة أمي وصراخها بطردي من داخلها إلى الأبد،فبكيتُ بحرقةٍ بينما كانوا هم يزغردون ويهتفون: ولد يا نبيّات، ولد!
الكحلُ في عينَيّ يكوي جفنَيّ،تتلقفني الأيدي وتقبّل شفاهٌ كثيرةٌ وجهي،صوتُ “الهون” المرتفع الرنّان يدوّي في أذني ويفزعني، أمي تمسك بحلمتَيّ الصغيرتين المنتفختين وتعتصرهما فتنفث منهما قطراتٌ من اللبن، أبكي وأبكي…لَكَم بكيتُ وهم يضحكون!يعلو صوت أبي وهو يحدّث جدتي: “أسميتُه طَهَ…كُلُّه أنتِ يا سرورة”.إبريقٌ يشعّ نوراً من كل جانب، تسبح حوله حبّاتُ الفول في الإناء النحاسي الكبير.سرّتي تؤلمنى، شيءٌ ما موصولٌ بها يعبث به أخي عبد الله ويجذبه بإصبعيه. الحبل الصغير يقع من تلقاء نفسه من دون أن يشدّه أخي فييومٍ آخر. اختفى الإبريق بشموعه المضيئة، وأفرغت أمي الإناء من حبّات الفول وفرّقتها على إخوتي قائلةً:”إنها تجلب الحظ لحاملها فلا يضيّعنّها أيٌّ منكم!” ثم صبّت سائلاً أحمر في الإناء الكبير وناولته لأبي من نافذة البيت، كان يرقص بالعصا والجميع يصفّق وبدأ يفرّق ما سمّته أمي”الشربات” بين الجيران. لم يكن هذا فرحاً بقدومي بل كان احتفالاً بثورة الضباط الأحرار التي قامت بعد ولادتي بأقل من شهرين وقبل أن يصير بإمكاني حتى أن أصلب رأسي!
مشاجرات عديدة بين أبي وأمي في الأول من كل شهر، ترك أبي عمله القديم مع الإنجليز وانتقل ليعمل في وزارة النقل كسائق وابور زلط،قلّ راتبه إلى الثلث تقريباً وازداد تعلّقاً بمعسّل “زغلول” في علبته الصفراء التي أحفظ شكلها جيّداً، وكثر خروجه كل ليلةٍ مع غريب هوى، صديق عمره، ورفاقه من بولاق والعزبة.أما أمي فكأنها تحارب كي تطعمنا وتكسونا. لم يكن يحنو عليها سوى أخي الأكبر عبد الرحمن الذي يعمل “مكوجي” ويعطيها أغلب ما يكسب ويدّخر البقية من أجل حلم شراء دكان خاصة به.تزوّجت أختي عفيفة من ابن صديق أبي وسكنت في “عزبة الورد”؛ كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها أبي علي يبكي وتغرق دموعه وجهه، وظل يقول لها يوم زفافها:”مبروك يا بنت ودودة، كأنك هي يوم عرسنا”.
قبل زفاف أختي عفيفة اصطحبَتها أمي إلى الحمّام، تعلّقتُ برقبة نبيات وذهبت معهما إلى هناك،دلفنا إلى الحمّام الذي يعجّ بالسيدات العاريات من كل جانب، لم أكن قد بلغت أربعة أعوام بعد،حرارةٌ لا تُطاق وبخار الماء الكثيف يحجب عني الرؤية فأدعك عينيّ وأفتحهما على وسعهما لأتحقق ممّا أرى، ضحكاتهن وزغاريدهن وهمساتهن، يحطن بي، أرى كومة من اللحم يغطيها الذهب الأصفر والقِشرة،يعرضنها على بعضهن بزهو بما امتلكن من مفاتن ومصاغ، يتلامسن فيما بينهن فتمازح الكبريات منهن الصغريات ويستمتعن بخجلهن وهنّ يغطين أثداءهن وفروجهن عن العيون المتلصّصة،أكفٌّ مثل أكفِّ الرجال تدعك الأجساد الطرية النائمة فوق الرخام البارد، تأوهاتٌ غانجة، وروائح عدة تنبعث من الأجساد ما بين الطيّب والكريه، ورأسي محشورٌ بينها لا حول له ولا قوة،ذاهلاً ممّا تبصره عيناي وتشعر به أناملي الصغيرة…عالمُ النساء الذي لا يُنسى؛ ذلك العالم الغامض ولكن العجيب والمثير.
كان يوم ختاني يوماً مشهوداً في “عزبة بلال”، لا لأهمية الحَدَث ولكن لأنه تمّ على رؤوس الأشهاد. افترش الأهالي حصيرةً كبيرةً في “الوسعاية” التي تتقابل لديها الحارات والأزقة المجاورة، وأمسكوا بالذكور بعد أن استدعوا حلاّق المنطقة الأشهر “أحمد بُوهُؤ”،وتلك كانت تسمية أهل العزبة له كنايةً عن سعاله “الديكي” المميّز.ارتدى “بوهؤ” جلبابه الأبيض النظيف وأمسك بحقيبته السوداء التي تحوي عدّة الحلاقة التي هي ذاتها عدة الختان،ثم جلس على الحصيرة وهو يشير لأمي بالموسَى فشعرتُ بأني مقدمٌ على خطرٍ كبير، شرعتُ في الصراخ حتى بحّ صوتي تدريجياً،وقد كبّلتني نبيات بذراعيها من خلفي فباعدتْ بين ردفَيّ الهزيلين. بتر “بوهؤ” جزءاً من عضوي فكان الألم لا يُحتمل وانهلتُ سباباً بذيئاً على الحلاّق وانبجس دمٌ غزيز مني، وعندما أفلتتني أمي وجدتُ بحيرةً من الدماء تسيل تحتي! تلك هي المرة الأولى في عمري التي أرى فيها دماءً حارة طازجة، وكانت لسوء الحظ دمائي أنا!توافد الذكور من بعدي على “أحمد بوهؤ” يفعل بهم الشيء ذاته بالموسى نفسه، حتى استحالت الحصيرة الرملية إلى الأحمر من أثر مجزرة ذكور العزبة الصغار!
عندما أتممتُ عامي الخامس أرسلتني أمي إلى كُتّاب الشيخ الضرير “علي بُنَّة”. كنتُ خائفاً وازدَدتُ خوفاً عندما أبصرته جالساً فوق كرسيه في حجرةٍ صغيرة وأطفال العزبة جالسون أمامه. نظرتُ في وجهه العابس فوجدتُ إحدى عينيه مفتوحةً وحدقتها بيضاء ومعلّقة إلى زاوية واحدة بلا حراك، والأخرى مزمومة كأنها مغلقة على سرٍّ غامض،يمسك بعصا خشبية رُبِط في طرفها سوط من الجلد الطويل.
يرتّل الشيخ “علي بُنّة” القرآن آيةً آية ويأمرنا بالترديد وراءه بصوتٍ عالٍ وواضح، يستطيع بمهارة التمييز بين أصواتنا الحادة فيكتشف من أخفض صوته أو صمت منا فيهوي بكرباج العصا فوقه تماماً. يعلو صوتي يوماً بعد يوم، خوفاً من سوط الشيخ الموجع، ثم يصيبني التعب فأخفضه رغماً عني، أتّقي ضرباته المتتالية فأُخفض رأسي خلف جسد زميلي الجالس أمامي،فينال منّا سوياً.كنتُ على إيمانٍ تام بأن الشيخ يرانا وليس بالضرير كما يُظهر.أُخرج نصف الرغيف المحشوّ بالجبن من حقيبتي المصنوعة من القماش فتمتدّ الأيدي لتتخطّفه من بين أصابعي عنوةً فيتفتت إلى قطعٍ صغيرة في أفواه الأطفال الجوعى وأشعر بالظلم لأنني لم أتناول منه سوى قضمة صغيرة لا تسدّ جوعي، بينما تقذف أمي في حِجر زوجة الشيخ “علي بُنّة” عدداً من أرغفة الخبز “المفقّع” الذي أحبّه والبيض وقطعة كبيرة من الجبن القريش الذي تصنعه بنفسها في بيتنا.
ولكي نهرب من الكُتّاب كنّا نتذرّع بقضاء الحاجة خارج الحجرة الصغيرة الخانقة، ونتجمّع في الساحة المهجورة خلف المنزل فيهرب منا من يهرب ولا يعود. وعندما اكتشف الشيخ أمرنا كان يحصي عدد الأطفال المتسرّبين وقد حفظهم جيداً، فيخرج إلى الساحة ويهوي بالكرباج فوق ظهورنا العارية أثناء قضاء الحاجة قبل أن نتمكّن من الهرب. عدتُ من الكتّاب ذات يوم وأنا مصرٌّ على ألا أعود، وتلك كانت المرة الأولى التي أصرخ فيها في وجه أمي وأقول لها بصوتٍ عالٍ ليس بخفيضٍ أبحّ مثل الذي أردّد به القرآن: لا!
انصاعت أمي لرغبتي، وكانت تضمر لي نيّةً أخرى وهي إرسالي لمدرسة الشيخ جابر. أذكر كيف حاولت إقناعي وهي تغريني بمصروفٍ يوميّ يبلغ “تعريفة”،وكيف التفّ إخوتي حولي يعدّدون مزايا مدرسة الشيخ جابر. ذهبتُ وأنا عازمٌ على الهرب من جديد إن لم يعجبني الحال بعد أن أحصل منها على التعريفة. لم تمرّ أيام قليلة حتى أصابني الملل من المدرسة التي تتكوّن من ثلاثة فصول في مسكن صغير بجوار بيتنا، حتى اقترح الشيخ جابر، الذي يدرّس اللغة العربية إلى جانب تحفيظ القرآن الكريم، أن يشترك التلاميذ في “جمعية” بخمسة مليمات يومياً، فرَاقَت لي الفكرة خاصةً بعد عمل “قرعة”من بين خمس وأربعين تلميذاً استقرّت عليّ، فكنتُ أول من قبض مبلغ الخمس والأربعين تعريفة،وضعها الشيخ جابر عني في علبةٍ من الصفيح وأمرني بالذهاب إلى البيت مبكراً قبل انتهاء اليوم الدراسي خشيةَ أن يسرق أحد التلاميذ المبلغ الكبير مني! عدتُ إلى أمي بالعلبة الصفيح وحكيتُ لها ما حدث فلم تصدّقنى وذهبت مهرولةً إلى الشيخ جابر فصدّق على كلامي، واحتفظت أمي بالمال، وقد استمرت في إعطائي التعريفة اليومية لأدفعها إلى الشيخ حتى انقضت أيام الجمعية التي لم أظفر منها بشيء سوى بفرحة حمل العلبة الصفيح الرنانة التي تحتوي على ٤٥ تعريفة.
غير أنّ وجه الشيخ جابر، الذي ظهر في بداية الأمر طيباً، ويده التي تخلو من السياط أبعدا عن إدراكي كل تشابه محتمل بينه وبين الطاغية “علي بنّة”، ولكن الحقيقة المؤلمة أنّ ما حسبناه موسى كان فرعوناً عندما علّقني الشيخ جابر في الفلكة وخلع حذائي الصغير وانهال عليّ ضرباً بـ”الخرزانة” الطويلة إثر وشايةٍ ظالمة من التلاميذ. صرختُ ثم صرختُ ألماً حتى بحّ صوتي كالعادة، وعندما اشتدت استغاثتي تركني، فوطأت قدماي الأرض وأنا لا أكاد أشعر بها. كان بداخلي إحساس أدركتُه فقط وقتها للمرة الأولى، اسمه: الظلم! وأظن أنني وأنا أقذف المدرسة وزجاج نوافذها وتلاميذها والشيخ جابر بالحجارة كنتُ أعلن عن كراهيتي الشديدة لهذا الظلم، وقد بدأت الانسلاخ من جلد الحمل الطيب!

Saturday 28 May 2016

شِدّي حالك




أستطيع أن أميّز بينهم إذا طرقوا بابي، فأعرف مِن أكفّهم مَن خلّف وراءه ميتاً،يبسطون أيديهم مستسلمين يائسين،متخذين بين البطء والإسراع سبيلاً،ليس كطَرْقِهم في السابق عندما كنت أُمرّض ذويهم،ذلك الدق المُلِح المفعم بالأمل ،فأسعف جروحهم وأقوم بتغيير اللفافات يوماً بعد يوم حتى تطيب، أدلّهم على مداواة الحروق بالزبد،أو أعطيهم حقن تسكّن آلامهم وتجعلهم ينعمون بالنوم العميق فيُصبحون من ليلتهم متعرقين بالشفاء.. قبل دقائق كنتُ أتأهب لحضور عرسٍ في الحُلم وطُلِب مني تجهيز العروس،فتّحتُ عيني على صوت حمارٍ يستغيث،هكذا أظن كلما سمعتُه،كأنه يرى ما يخيفه أو يسمع ما يؤذيه، شيئاً أكثر قبحاً من الشيطان الذي ظل برفقته حتى على عتبة سفينة نوح وحاول منعه من الدخول لينجو:إنه الموت..
إذاً الدق اليائس يقول أن لديّ عملاً اليوم مَعنيٌّ بالموتى لا بالأحياء،كما هو الحال منذ عشرين عاماً،والحق أني لا أفتقد التعامل مع المرضى مطلقاً،ولم أعد أكترث لأمرهم،فالسعادة التي كانت تغمرني عندما يُشفى أحدهم باتت تتلاشى تدريجياً،ليس فقط لوقوفي عاجزةً أمام جرحٍ غائر ملوّث يحتاج إلى كيلو قطن يومياً مشبّع بصبغة اليود والمراهم والدهانات وفي النهاية لن يلتئم،أو عدة أجساد مصابة بأعيرة نارية إثر مشاجرة بسبب بضعة جنيهات ،أو لأن ثقة أهالي حي الشرّابية في ‘‘شَرّابيّة الحكيمة’’ تآكلت يوماً بعد يوم أمام روشتات الأطباء وغرورهم وهم يُملون مطالبهم على مسامع أهل المريض،‘‘شَرابيّة’’ التي سمّاها أبوها ليمتد ذكرى (الشَّرَّابة) سقاة الناس منذ زمنٍ بعيد -وهو منهم- باتت أشبه بـ‘‘شُرّابة الخُرج’’،لا تحلُّ أسقاماً ولا تربط جروحاً،ولكن أيضاً لأنني تعبتُ من عذاب الإحساس بالأمل دون جدوى،فحسمتُ أمري عند أول فرصة أتت كي أعبّر للموت عن عظيم إحترامي،كي أدين لهذا القاتل بالولاء الكامل وأودّع برضا تام فقيديّ:ابني والذي غادر في هدوء وهو نائم، ومهنتيَ القديمة ..
‘‘شَدي حالك’’ أقولها وأنا أصافح ابنة المتوفاة الآن،كما تصافح أمها الموت في نفس اللحظة، وصافحه ابني في لحظةٍ سالفة،في كثير من الأحايين لا يجد المرء أمامه سوى أن يسلّم على عدوه، وقتما لا يمتلك القدرة على هزيمته، وكما قيل في الأمثال: ‘‘ما محبة إلا بعد عداوة’’..
أتساءل كل ليلة كيف يتسع قلبي لكل هؤلاء،كيف أتفقد وجوههم بشجاعة ملك موت وأسامحهم بسرعة وصول الورثة؟ ربما لأنني رأيتُ منهم ما كفاني، رأيتُ جثامينهم للمرة الأخيرة قبل أن أسلمَهم للعَدَم، مسحتُ عنهم البول والدماء واطَّلَعتُ على العَذِرة والعُذْرة ..ولَكم شممتُ ما أكره بقدر ما طَيّبتُ بما أحب..
الجزء الأصعب في الحكاية أنك تكون على صلةٍ بالميت،أنْ دَخَلَ طعامُه جوفَك وسقاك من مائه وكساك من ملبسه، كما هو الحال مع جارتي التي سأذهب فأراها للمرة الأخيرة كي أجهزها للعرس مثلما رأيتُ البارحة في الحلم، بيت الحاجة ‘‘أم إبراهيم’’ عامرٌ كالعادة،بيتٌ لا ينفد منه الطعام قلّ أو كثر،لا تدري كيف أو متى تم إعداده وهي إما جالسة أو نائمة،لا تقف سوى كي تذهب إلى دورة المياه على (مشّاية) كالتي يستخدمها الأطفال حديثو العهد بالسير،أوصت ‘‘ست النعم’’ -وهو اسمها- بوقوفي على غُسلِها،وعندما اشتد بها المرض سألت أولادها: ماذا ستحضرون لي في عيد الأم؟، قالوا: ما تطلبين،فقالت: أريد كفناً تشتريه ‘‘شَرّابيّة’’ من ‘‘عوف’’ وقولوا لها أم إبراهيم توصيكِ بطول السُّترة وكثرة الطيب.. 
في ‘‘عوف’’ زاغت عيناي على اللفائف بأقطانها وحريرها،اشتريتُ كفناً قطنياً وآخر من الحرير،قلتُ في نفسي لا أحد يدري، فكل ميّت ينادي كفنه،أما الليفة فكانت من النوع الذي أفضلّه، أليافها ناعمة ذهبية تشبه ذيل حصان أشقر ملفوف، لها شكل مغرٍ فتتوق النفس إلى حمامٍ ساخن بـ‘‘الكوز’’ كما كان الحال قبل أن يصير لديّ سخاناً،شعرتُ كأنها تناديني فسألتُ البائع إن كان بإمكاني شراء ليفة من دون كفن، فقال لا،صمتُّ وأنا أتأكد من وجود زجاجات المسك الأبيض والأسود والكافور والعود إضافةً إلى السِّدر،كلٌّ له وظيفته واستخدامه في أثناء التكفين..
تمنيتُ أن ترحل ‘‘ست النعم’’،وذلك لأني أحبها ولا أريد لها عذاباً،كانت تلك المرأة هي الوحيدة التي لا يصيبها النفور مني بعدما تحولتُ من حكيمة إلى مغسّلة،الإنسان يموت عندما تلفظه الأماكن التي يحبها.. ظلّت تطلب مني التغيير على قدمها المريضة من دون علمِ أبنائها أو أحفادها، المهم ألا يرى أحدهم ما آلت إليه،أم إبراهيم وأنا كلتانا تكره الأطباء،وبقدر كراهيتي للعودة لتلك المهنة فلقد وافقتُ من أجلها فقط،فكان مرض السكري اللعين ينهش أصابع قدميها وكنتُ أتفنن في العناية بهما،فأضعهما في الماء المملح وأطهرهما بتلك السوائل الداكنة قاتلة الجراثيم، رأيتُ كيف تتبدّل ألوان أصابعها بالتدريج حتى صار أكبرها أسود اللون،شعرتُ بالقلق ولكني لم أرد إخافتها،أعرف أن الأمر قد يؤول إلى بتر الإصبع أو القدم وأحياناً الساق! هؤلاء القساة لا يرحمون!
ساورني القلق، ذلك الذي بتُّ أهرب منه طوال تلك السنوات،هل أقول لأبنائها؟ أم أحدّثها بضرورة رؤية طبيب؟ أم إبراهيم لا تتألم مطلقاً، لا تشعر بيدي حتى عندما أضغط على جراح قدميها المفتوحة، لماذا أزعجها وأعرّضها لشيء بشع اسمه البتر؟ لمَ لا أدعها جالسة هكذا بابتسامتها الواسعة عندما تسمع صوت ‘‘صليب’’ بائع السمك منادياً فتطلب مني شراء البلطي الصغير وسمك المكرونة منه؟ وتفرح بالقشور عندما تتطاير -وأنا أنظفه بجوارها-إلى حجرها، أشوي البلطي وأقلي المكرونة ونأكل سويًّا؟ أمرٌ لا يحدث سوى في بيت ‘‘ست النعم’’ التي لا تخشى من نذير الشؤم ‘‘شرّابيّة’’!  فتكتّمتُ سواد القدم كي أنقذ قلبها من سواد الفقد إذا أتاها زاحفاً..!
كل شيءٍ معد الآن، الكل ينتظر شرّابية ويستقبلها باحترامٍ، تماماً كما شيّعوا طبيب الصحة حتى الباب، من تحت نقابي تطلّعتُ إلى نظراتهم الحزينة المختلطة بالحيرة، بين الصمت والبكاء والصراخ، توجهتُ إلى حجرتها فلمحتُ أسطوانة الأوكسجين مرتكنة إلى إحدى الزوايا،تذكرتُ أني نسيتُ إحضار ‘‘صبغة جاوا’’ معي اليوم،كانت تخبرني أنها تشعر بالغرق،كأن الماء يغمر صدرها حتى أنفها،فأجعلها تستنشق بخرها الساخن المتصاعد إلى أن تظهر عليها علامات الراحة لأنها تمكنت أخيراً من جذب نفس عميق..وجدتُها فوق السرير المعدني المنصوب من أجل الغُسل،فإذا بها راقدة بلا حراك،وقد لفّوا حول وجهها منديلها الأزرق القديم  بزركشته من الورد الأصفر والأحمر،كأنه قطعة (قماش خيّامية) فلم يحكموا ربطه، يتدلّى فكها السفلي فظهر سنها الفضي،عيناها مغمضتان،في كل منهما خيطٌ لامع دقيق تحت أهدابها البيضاء،بدت ست النعم كأنها نائمة لدرجة أنني تشككتُ في موتها..وضعتُ يدي على قلبها فكان صامتاً،قلتُ السلام عليكِ يا أمي فلم ترد، قبّلتُ يدها وجبينها وبكيتُ،من دون صوت،لا ينبغي أن تبكي شرّابية أمام أحد..
طلبتُ أن يخرج الرجال جميعهم من المنزل،طلبتُ الكثير من الماء الدافيء، طلبتُ كذلك أن تبقى من تقدر على احتمال الغُسل ممن أوصت بحضورهن،بسطت اللفائف وكان لا بدّ من تخييطها في بعضها البعض لتستوعب جسدها الممتليء فانهمكت بناتها في القيام بهذا العمل، بينما شردتُ أنا في تلك الحركة شبه المستمرة والتي كانت تقوم بها في آخر أيامها وهي غائبة عن الوعي،كأنها تخيط شيئاً،نادت ست النعم عليّ ضمن مَن نادت،على ‘‘رئيسة’’زوجة التُربي وعلى زوجها المتوفّى وعلى أخواتها الراحلين جميعهم..كنتُ أتعجب كيف تمرض تلك المرأة برأسها ورئتها وهي التي كانت مغرمة بأكل رؤوس السمك وخياشيمه؟
أخرجتُ الليفة الذهبية وقد بقي اثنتان من حفيداتها واثنتان من بناتها،ابتسمت لهن وأنا أضع كفي فوق جبينها المُندّى فقلت تلك دلالة على حسن الخاتمة فاشتد بكاؤهن،أخذتُ في صب الماء صبًّا فوقها وهي مغطاة بملاءتها المفضلة.. لماءِ الغُسل صوتٌ مختلف فوق الجثامين، يذكّرني دائماً بالتخلص من جنابة الليلة الأولى،وغسل آخر ليلة من ليالي النفاس،تلك الحياة ! كيف لا يصير فيها شيء ذا قيمة سوى ذلك الذي يشبه الرحيل عنها؟
ليفةٌ طيّعة ناعمة..خُيّل إلي أن أم إبراهيم تستحسن الأمر،انفرج فكها قليلاً خاصةً وأنا أصب الماء فوق شعرها،قسمته ثلاثة أجزاء وبدأت في تضفيره ،هرعت الحفيدة الكبرى في تضفير جزء وأشارت إلى الأخرى لتضفّر الشعر المتبقي، قالت لها: ضفري، فذلك جيّد لمن لم تنجب بعد، تعجبَت الصغرى ولكنها فعلت كما طُلِب منها،كانت تبكي بكاءً مرًّا وتهمس لست النعم بأنها تضفّر شعرها الآن كما اعتادت هي أن تفعل معها في الصغر وباتت تحدثها: ‘‘ضفريه عشان يطول’’..
الآن وبعد الغُسل الأخير أستطيع أن أشتمَّ رائحة الأطفال الرُضَّع تفوح من جسدها الطري،الآن يحضر الملائكة من حولنا ليؤمّنوا على الدعاء لها،أحشوها بالقطن،وقلبي محشوٌّ بالفقد،ألفُّ حولها الكفن مثلما اعتدتُ أن أربط جروحها،طبقات ..طبقات .. القدم المريضة غادرها السواد، لا لأن الجرح قد طاب ولكن لأنهم بتروها..
لا فائدة ، العجز يطاردكِ من جديد، قدمها المبتورة ليست هنا،فمها مفتوح لتسقيَها -يا شرابيّة -ولا تقدرين ..كثرة الطِّيب لم ترد دود الأرض عن ابنك..
لن آخذ مالاً من ‘‘ست النعم’’،لكني سآخذ تلك الليفة الذهبية،سأغتسل بها الليلة هي و‘‘الكوز’’ الألومنيوم،سأدسُّ أنفي في صحن كبير مملوء بالماء الساخن وأذوّب فيه صبغة ‘‘جاوا’’ فأستنشق بعمق كي يتطاير معها مخاط الأحزان اللابد في روحي،سأشتري أكلة سمك من ‘‘صليب’’ ،وأحيكُ من الكفن الحريري عباءةً،ثم أبحث عن عرس في الحي غداً لأحضره، ذلك ‘‘الحي’’ كالحياة ،لا تنفد منه الأعراس ولا المآتم أبداً..

نُشرت في أخبار الأدب أبريل 2016 

Saturday 27 February 2016

الطريق -جزء من فصل -رواية الفيشاوي





يحسبون الطرقات خرساء، يحسبونها لا تحكي، رُبّ سُبُلٍ فاضت بأحاديث لم يروِها بشر، وكم من بوحٍ أُريق على قارعة الطريق. الأرض ترعاك أيها الإنسان، الأم السمراء تستمع إلى وجودك.
ليس هناك أبلغ من قصة حذاء صُنع على مهلٍ في ورشة إسكافيٍّ ماهر من توسكانا، يمسك الجلد بيد وقلبه بيد، كل تجعيدة في وجهه مَعلَم فلورنسي فريد، مقوّس الصدر في منتصفه، حفرت كعوب الأحذية فيه ممراً يتحسّسه بأنامله المصبوغة بالورنيش وهو يشاهد نهر "أرنو" عن بعد ويبتسم، جسوره القديمة ذكرياته. صار هذا الحذاء الآن في قدميّ هذا الشاب المصرى النحيل،ولا يعرف أنه اكتسب تجاعيد وجهِ صانعه، فلم يعد الزوج التوسكاني الجديد اللامع ذاته،انبرت حوافه واكتسبت استدارة من كثرة السير، وهبطت بطانته السوداء تحت قدميه وفي طريقها إلى التآكل. أوشك لُبّ النعل على التحرّر، فبرز كلسانِ طفلٍ حديث العهد بالكلام.تلك الألسُن تدريجياً تقصّ كل شيء، ألسن النعال المنهكة القديمة تخبر الطرقات بكل الحكايات.
على أرض المعهد، تدبّ نعال مصرية مغروزةٌ في أجسادها مساميرُ صدئة من طول الانتظار، تزاحمها أخرى بجلودٍ إنجليزية وبحياكةٍ ألمانية أو غُرَزٍ بولونية. كعب أرمنلي رفيع يفتك بقلوبٍ يسري نبضُها حتى مواطئ الأقدام، وآخر يوناني تميل لدبيبه الرقيق الآذانُ... عالمٌ ملوّنٌ غضّ الأحلام.
يُحدّثني النعل التوسكاني بحكاية طه، الطالب بالمعهد العالي الفني، يشكو إليّ قسوتَه عليه، فلم يكتفِ بالسير به ذهاباً وإياباً كلَّ يوم من عزبة بلال إلى المعهد بشارع شبرا، بل يواظب كذلك على المشي حتى أقرب محطة أتوبيس توصله إلى "المنيل"، هناك يقوم بالجلوس أكثر من ثلاث ساعات مرتين أسبوعياً فوق بساطٍ أحمر قانٍ بأليافٍ ناعمة، يشجّع الحذاء على النوم فينال قسطاً من الراحة فى منزل "الست لواحظ"، والدة لتلميذين في المرحلة الإعدادية يساعدهما طه على الاستذكار، وكان قد قام من قبل بعمل بعض ديكورات بصحبة د.عدلي في نفس البيت فطلبت السيدة ذلك منه فوافق لفوره.
يحتكّ حذاء الشاب النحيل بحذاءٍ ورديٍّ مرةً أسبوعياً بالقرب من مشتل يطلّ على ترعة الإسماعيلية، ذاك حذاء لبنى حبيبة طه، إذ يبثّها لواعج الهوى، ويبوح لها بأفراحه وأتراحه، يكرّر على مسامعها تلك العبارة فكثيراً ما تبكي: "لو أنني لم أمرض!"، وسرعان ما يحكي لها كيف يحقّق الطالب المصري النحيل تفوقاً ملحوظاً على أقرانه من المصريين والأجانب في المعهد، وكيف يتوقّع أساتذته له نجاحاً مبهراً، يقصّ عليها تهافت الفتيات عليه كي يرسمَهنّ بعدما رأينَ صورة "إيـﭬا الأرمنية مرسومةً في دفتر المحاضرات بقلم فحم، فتغضب ويصالحها بضمّةٍ طويلة وقبلةٍ على يدها.

ستة أشهر قضاها طه في هذا المعهد، يستذكر ويعمل ويحب ويرسم، ويواصل المسير، حتى وصل كعادته إلى بيت الست لواحظ، وقبل أن يصعد وجد الشرطة تحاصر المنزل ويتحدث الجيران عن ضبط بيت مشبوه بالداخل. لم أستطع إخبار طه بأنّ الست لواحظ، قبل دقائق فقط من وصوله، كانت تسير حافيةً فوقي بصحبة فتيات أخريات شبه عراة يبكين، تقودهن أحذية العساكر الثقيلة الخشنة. تجمّد الحذاء التوسكاني في مكانه، وبعد لحظاتٍ انصرف مع صاحبه ولم يعد مرةً أخرى. لم يكن يدري أين يذهب وكيف ستستمر حياته بعد انقطاع هذا الرزق عنه خاصةً بعد مرض د.عدلي وتوقفه عن العمل، يمسك دفتر المحاضرات بكلتا يديه، يحتضنه باكياً لا يسمع نشيجه سوى النيل والقمر وأنا.
لم يكن صاحب حذاء توسكانا من يبكي وحده، ملايين الخطى في صبيحة اليوم التالي كانت تبكي، جموع لم تشهد تلك الأرض مثلها من قبل، من جنوبها إلى شمالها، تماهت الطرقات مع بعضها البعض، كسرَت الخُطى المتهافتة كلّ الحدود في طريقها إلى وِجهةٍ واحدة،حتى ذلك الجسد الساكن الواقف على الطمي حافي القدمين أوقف دابّتَه التي تدور واحتضنها باكياً، كان قلبه يتوجّه نحو الوِجهة ذاتها: جثمان ناصر.
للطريق قلبٌ حجريٌّ أسود يكاد ينصهر حزناً على آدم وبنيه أبد الدهر، له قلبٌ لا يحتمل وداع الصحبة والأحبة، يراقب مِن خطوات أحدهم المتثاقلة كيف امتطته المحن والخطوب، ذلك لأن للمصائب أرجلٌ عديدة كالعناكب والخنافس، ولكنها هشّة تنكسر مفاصُلها بسهولة، وتفقد أطرافَها فتقع. هذا الأسفلت معجونٌ بجثثها المنقوصة وأطرافها المبتورة وتفوح من مسامه رائحة هزيمتها الكريهة.
مرّت ليالٍ لا تُنسى على صاحب حذاء توسكانا، تكرّر ذهابه إلى أرضٍ غير معتادة، بسياجٍ عالٍ حولها، حتى وجدتُ الحذاء المنهك في يومٍ ما يطير إلى أعلى فرحاً بصحبة حذاء من "باتا" يرتديه زكريا صديق طه. تبع هذا الحادث أيام يسعى فيها خفّان من البلاستيك من العزبة إلى أشمغة ترتديه نبيات، والدة طه، تسير مُسرعةً وكأنها تريد الإمساك بشيء قبل أن يختفي، ثم تعود بدبيبٍ زاحفٍ يجرّ خيبةً ما، إلى أن أتى ذِكر "زينهم معارك" وهرولت نبيّات في الخفّ الأسود إلى البيت ومعها مبلغ ٢۱ جنيه. صاحت في طه أنها حصلت على المصاريف المطلوبة، طار خُفّا نبيات إلى أعلى بقدميها المتشققتين إذ حملها ابنها محتضناً إياها ودار بها دورةً كاملة، أحاط إخوته بهما فرحين وبدأ يوسف في السير بخطوات منتظمة مثل الجنود والجميع يضحك.
أنتم تضحكون يا بني آدم ثم تبكون، سمْتُ حياتكم القطع بعد الوصال، والوصول بعد طول المسير، ولكن هذا الشاب يشعر بالضياع، الطريق يمكنه قراءة الحيرة من الخطوات. فبعد ساعات بين جلوسٍ ووقوف مع أصدقائه بالمعهد لمرةٍ أخيرة، يودعهم بأسى ويهديهم محاضراته المنقولة وبعض لوحاته ويهجر تلك الأرض الملونة إلى أرضٍ أخرى لم يرها بعد. يبحث طوال الوقت عن صاحبة الحذاء الورديّ، يرفع رأسه إلى أعلى فيجدها في انتظاره كعادتها خلف النافذة،فيقرر الصعود إلى شقتها. تفتح له الباب فتقرأ في عينيه الزرقاوين الرحيل. دفنت لبنى رأسها الصغير في صدر طه، احتضنها واستسلم لقداسة تلك اللحظة. يقول الطريق إن البقعة التي تضم حبيبين خُلقا من نفسٍ واحدة تشعّ نوراً يضيئه، مثلما أضاء الحب جوانحَهما. قال الطريق أيضاً إن الحبيب ليس بأعمى وإنما هو بصير. لا يمكن لأحد أن يفهم سر صمت والدة لبنى عندما شاهدتهما متوحدين في ضمّةٍ طويلة، ولا التكهّن بما سوف يحدث بعد دقائق إذا وصل أخوها ورآهما... اللحظة أسمى من كل خوفٍ وظنّ.
كيف ستبلّغ الحذاء الورديّ أيها التوسكاني أنك لن تذهب إلى أرضٍ بعيدة فحسب وأنك لن تُحرم من رؤيتها وحديثها فقط؟ كيف ستخبرها أنك ستركب طائرةً مع الدفعة الجديدة وتحلّق إلى السودان لتبدأ حياتك العسكرية هناك؟
كيف يودّع أبناؤك أيتها الأرض بعضهم بعضاً؟ كيف للأم أن تلد جنينها وتفطمَ رضيعها وتتركه يمضي وحيداً؟ كيف ستفعل ذلك نبيّات؟