Sunday 17 November 2013

بسكاليا



"بسكاليا " راجح داوود تصاحب جمالية المطر , السحابات قد كشفن وجوههن الرمادية مع مَد الأرغن ..آلة الموت والحياة ..غيمات بيضاء تتصدّر بعض الأفواج مع دخول الكمان الحانى جاذب الدمع..العود يعانق زرقةُ السماء التى تحتضنُ فوضى الشوارع المكتظة بالسيارات والمغرَقة بالماء وضجيجَ الطلاب فى الفصول وهم يتسابقون على النوافذ لملامسة قطرات الهدية الربّانية..الموسيقى تتزامن مع غبار الأسطح المهملة الذى  ينعجن تحت وطأة الماء فأتذكر حارات "الكيت كات " الضيقة وزينة "رمضان" الورقية القديمة غير المكتملة  توصِل البنايات ببعضها البعض , لايزال العود يدق على قلبى وفتيات يغطين رءوسهن بيد وبالأخرى يرفعن ملابسهن إلى أعلى فى حَرَجٍ باسمٍ خشية البلل , وشاب يراهن صديقه على تخطّى بركة الماء الواسعة فى قفزة واحدة , وشاب آخر يرتدى ملابس صيفية يفرد ذراعيه ويسير منتشياً دون التفات إلى السيارات ..عتّالٌ جالس تحت شجرة  "عصا الذهب" بزهرها الأصفر المبهج بجوارعربة يد تحمل مَوزاً دون صاحبها ..غنائية المطر تكسو الأشجار فتبعثها خلقاً جديداً يتنفّس بعمق ..يزهو بأزهاره وأوراقه النظيفة مع عزف الآلات جميعها سويًّا..
مع "بسكاليا", تتعلق عينى ببصيص دقيق من ضوء الشمس انفلت من الغيم , بسائس يمسح السيارة الفارهة وقد ثبّت عينيه على نقود صاحب السيارة فى الحافظة , بطفلةٍ ضاحكة تدور حول نفسها دورةً كاملة أمام والدتها فينتفخ ردائها مرتكزةً على حذاء متسخ  ..أرى نفسى مثل "الشيخ حسنى" معلّقةً بتنورةِ درويش يدور بى وبشبكةِ صيد لامعة بصيدٍ ثمين ..بمكحلة "رأفة" كما وصفها "أصلان" :مدورة من زجاج داخل مخدة صغيرة مكسوة بالساتان الوردى الباهت ومشغولة بالخرز الدقيق ،لها فوهة ،وسدادة مثل حلمة طرية ،معقودة بخيط من حرير ، مع مرود نحيل من العاج..
يطاردنى ما قاله لى ذات مرّة : "إذا أردتِ نجاةً وقت الإعصار , احرصى على مكانٍ فى مركزه" ..كانت نظرته حادة ولهجته قاطعة ..يحدثنى أنا فحسب رغم الحضور القليل المحيط ..يطأطىء رأسه قليلاً رافعاً بصره إلىّ من تحت نظارته الطبية ..تعلّق قلبى بالكلمات ..بثّت فى روحى جسارةً لحظية ..تمنيتُ لو يأتى إعصارٌ الآن كى يشاهد شجاعتى وأنا أسبح إلى منتصفه  هنا ..فى الغرفة المُبَطّنة المعزولة عن صخب العالم حيث يتصاعد دخانه الخانق ليداعب آلات التحكم و"أُورْجَه" ذا الطابقين فى الاستديو ..لأكسر حواجز الخوف والترقّب بداخلى ..لأستمع إلى عزفِه لى وحدى عندما يذهب الجميع إلى الراحة وأرغفة "مؤمن" الطويلة المحشوة بالشاورمة ..
 أؤثر حُجرته الباردة الدافئة على كل شىء بعد الغناء ..لا أدق باباً ولا أتفوه بكلمة ..فقط أدخل على استحياء فيلتفت تلقائياً بكرسيه الدوّار من فوق أزرار التحكم  إلى "الأورج " ويتحول من مهندس الصوت إلى العازف الخاص لى ..اللحن ذاته .."بسكاليا" ..كنتُ أستمع وكأنى أشرب من ماء عينٍ لا رِى منه ..أبتسم ثم أدمُع ثم أغطى وجهى ويهبط شعرى معى إلى أسفل ..أميل بجسدى إلى الأمام لأجلس شاخصةَ البصر ..أحدّق فى الموكت الثقيل ولا أجد بُدًّا من سؤال يعصف بى : هل هذا حقيقى؟ ...أنظر إلى أصابعه الممتلئة البيضاء وجبهته الزاحفة حتى منتصف رأسه ..تنزلق دمعة لا يقاومها ..يتركها لتهبط ..يبتسم لى فأبادله ابتسامةً رائقة ..أكتشف أنه ليس سوى زجاج مثل ذلك الذى فى مواجهتنا تماما ..زجاج صديقى كان ملوناً مثل باب بيته الذى صنعه بيده قطعةً قطعة..وكنت أنا فى نظره "بينلوبى" التى نَحَتَها على بوابة الاستديو , تعزف التشيلو بدلاً من أن تغزل ثوب العُرس ..!

No comments:

Post a Comment