Monday 11 November 2013

أطوار الروح

 
 
لروحى التى لا أعرف عنها شيئاً تقويماتٌ زمنية عديدة ..شيطانى الأكبر يقذفنى عند مُدخلها ..والأصغر ينزلق ويسرى منى مسرى الدم ..أشعر بالدنس ودبيب خطاهما الواثق يتنامى إلى مسامعى ولا أعرف كيف أُسكِته ..برودة الجليد تكسو حواسى كلما همس لى هاتفٌ يستغيث : "قومى إلى صلاة" ..
فى لحظةٍ زمنية ٍ موازية يتبعها مكانٌ آخر فى روحى نفحةٌ من ربى تتغشّانى فتطيّب دواخلى بحنوطٍ من الجنة ,أغيب فى كمالها الذى ينسينى نقصانى ..لذةٌ طاغية تدغدغ روحى ..أشتاقُها شوقَ الطلب من بعد الغيبة وشوق التجلّى الكامل لمَن أقرضته وجهاً من وجوهها الحِسان ..!
ورجفةُ محموم ينازع الموت , تُكلّمُه النازعاتُ غرقاً ويفزع من كل ظلمةٍ لأنه يحسبها القبر..
ونشاط المجذوب الذى لا يكلّ ذهاباً أو إيابا أو حديثاً أو صمتاً ..
وتلك اللحظة التى تخنقنى كعرقٍ مسموم بيأس فوق جسد مصلوب :" لا فائدة من تلك التعاليم..مِن كل قيدٍ ومن كل لذةٍ ومن كل فكرة .."..
شىءٌ ما يجذبنى من دون إرادة إلى عالم المعرفة ..ثم أخلُص إلى أن كل معرفة لذة روحية لا تفضِى إلى يقين ولا راحة ..كل الأشياء منتقَصة ..قاصرة ومشوّهة لأنها تتّكىء على نقصانى البشرى فيشتد حزنى ..
روحٌ ..روحٌ ..روح ..سئمتُ تلك الكلمة ..مللتُها ومللتُ ترديدها دون فهم ..قرأت ذات مرة : نصف السرّ فى المفتاح ونصفه الآخر فى البوابة ..وكنتُ فقط مجرد خطوة قبل الولوج ..لا مفتاحَ معى ولا بوابةً أبصر ..دائما هكذا ..قريبة وبعيدة ..أوشكُ أن أعرف كل شىء فيُسلب منى على غِرّة وكأنى لم أكن شيئا ..قمرٌ يضىء قلبى فأُبصر وأوشك على البوح بما أبصرتُ فتأتى سحابة قاتمة حبلى بالعجز تمتصّ نوره وتحيله إلى حَجَر أصمّ..
أخشى أن أزهد زهدَ المستكفى المَلول ..وأن أزهد زهدَ المعدوم العاجز ..خُلِقتُ من شهوةٍ وحكمة ..تارةً نور وتارةً نار .. ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ )..تلك هى القداسة التى أحنت الملائكة ساجدين أمام آدم .. الملائكة أو "المآلكة" كما أسماهم المعرّى ,مِن "الألوكة" وهى الرسالة ,العقول المجردة والأنوار الصّرفة والحكمة التى لا يشوبها هوى ..فلا يصدر منهم سوى التسبيح والتحميد والتقديس لله جلّ وعلا  ..لا غضب ولا شهوة فيهم ..منهم حملة العرش ومنهم مَلائكة الأجرام والكواكب والأقمار والجبال والهواء والأرض والرعد ..السابحات السابقات المدبّرات أمراً ...! هل أمر الرب القدير ملك الموت ليجلب مِن كل تربةٍ فى الارض كى يخلق منها آدم؟ هل كان ذلك صحيحاً؟ هل فقط تتوق أنفسنا إلى ما هو منّا ومنه؟ ..
تجلدنى نفسى على كل تلذذٍ عن احتياج ,وتحتقر ضعفى ..ولا تقومُ سعادة البشر إلا بقوة الإحتياج ..فأسبح فى بواطن الملذات عَلّى أجد ما يُطلَب لذاتِه لا لِما يدفعُهُ من آلام بحدوثه , أتغزّل فى الطعومات والروائح وأخلطُها بنكهة أحلامى وأرفعها من عالم الحسّ إلى الخيال فألوّنها بشخوصى الكثيرة وعوالمى السحرية  ..
أستقى روعة الحب وأحاول أن أفسّر ما لا يُفسّر بين قائلٍ "العشق دخان يصعد إلى دماغ الانسان يزيله الجماع , وبين ما سأله عمر بن الخطاب لعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما :  "الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا"  فقال على "نعم.. سمعت رسول الله يقول إن الأرواح جنود مجندة تلتقى في الهواء فتشأم فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"..
إذن هى الروح مجدداً .الخلق الآخر الذى بدأ ولا آخر له ..تقول الحكمة لى أحياناً : روحُك أسمى من الحياة لأنها خالدة, وحتى أكثر الأرواح خَبَثاً أخلدُ من الدنيا ..لذا هى الكفء للآخرة التى لا آخر لها مثلها, كما قال الرازى ..هل رأيتِ أنها لا تزن جناح بعوضة؟!
أعلم .. أنه علىّ تطهيرها وتزكيتها وأن الأصل فيها أنها مُلهمَة من الله فجورها وتقواها ..الحزن الذى يسكنها أبداً ..والسعادة الزائلة فِيها قبل إنقضائها .. ما السر فى الروح الحزينة ؟ المثقوبة بالفقر والحرمان والفَقد وطول الأمل فيما لا يُدركُ؟! فيمَ نياحتك يا داوود يا نبى الله وطول بكاءك يا أعذب الأصوات إلا من خشية وشوق وعشق للمحبوب؟ أنتَ يا مَن وهبك آدم أربعين عاماً من عمره عندما رآك نسمةً من بين ذريته.. ثم نسىَ .. لما مات محمد بن سيرين حزن عليه بعض أصحابه حزناً شديداً, فرآه فى المنام فى حالٍ حسنة فقال : يا أخى قد أراك فى حالٍ يسرنى فما صنع "الحسن" (من أصحابه) ؟ قال رُفع فوقى بسبعين درجة , قلتُ ولمَ ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه ؟ قال ذاك بطول حزنه ..وحبيب الله محمد صل الله عليه وسلم يصفونه فيقولون :كان متواصل الأحزان ..
أصبحَ فؤادى فارغاً إلا من بئرٍ عميقٍ فى روحى , يُفضى إلى مرآةٍ أرى فيها نفسى تارةً فى عِليين , تحت شجرة "طوبى", وشجرة النبق "سِدرة" وعلى السندس الأخضر وبين حور العين وتارةً فى سجّين فى أسفل سافلين محفوفةً بكل ما أحببت ..
ويزيّن لى الكِبر أحياناً أننى أحدسُ وأفرسُ وأقرأ ما بين السطور فيحضر ابن عربى من موته ويهمس لى قاطعاً : "خرْق العادة إن لم يُصبح عادة, لا يعول عليه"..فأشعر بالضآلة من جديد وأقول مستسلمة :"فليكن , الوجود أشرف من العدم"..
 

No comments:

Post a Comment