Saturday 28 May 2016

شِدّي حالك




أستطيع أن أميّز بينهم إذا طرقوا بابي، فأعرف مِن أكفّهم مَن خلّف وراءه ميتاً،يبسطون أيديهم مستسلمين يائسين،متخذين بين البطء والإسراع سبيلاً،ليس كطَرْقِهم في السابق عندما كنت أُمرّض ذويهم،ذلك الدق المُلِح المفعم بالأمل ،فأسعف جروحهم وأقوم بتغيير اللفافات يوماً بعد يوم حتى تطيب، أدلّهم على مداواة الحروق بالزبد،أو أعطيهم حقن تسكّن آلامهم وتجعلهم ينعمون بالنوم العميق فيُصبحون من ليلتهم متعرقين بالشفاء.. قبل دقائق كنتُ أتأهب لحضور عرسٍ في الحُلم وطُلِب مني تجهيز العروس،فتّحتُ عيني على صوت حمارٍ يستغيث،هكذا أظن كلما سمعتُه،كأنه يرى ما يخيفه أو يسمع ما يؤذيه، شيئاً أكثر قبحاً من الشيطان الذي ظل برفقته حتى على عتبة سفينة نوح وحاول منعه من الدخول لينجو:إنه الموت..
إذاً الدق اليائس يقول أن لديّ عملاً اليوم مَعنيٌّ بالموتى لا بالأحياء،كما هو الحال منذ عشرين عاماً،والحق أني لا أفتقد التعامل مع المرضى مطلقاً،ولم أعد أكترث لأمرهم،فالسعادة التي كانت تغمرني عندما يُشفى أحدهم باتت تتلاشى تدريجياً،ليس فقط لوقوفي عاجزةً أمام جرحٍ غائر ملوّث يحتاج إلى كيلو قطن يومياً مشبّع بصبغة اليود والمراهم والدهانات وفي النهاية لن يلتئم،أو عدة أجساد مصابة بأعيرة نارية إثر مشاجرة بسبب بضعة جنيهات ،أو لأن ثقة أهالي حي الشرّابية في ‘‘شَرّابيّة الحكيمة’’ تآكلت يوماً بعد يوم أمام روشتات الأطباء وغرورهم وهم يُملون مطالبهم على مسامع أهل المريض،‘‘شَرابيّة’’ التي سمّاها أبوها ليمتد ذكرى (الشَّرَّابة) سقاة الناس منذ زمنٍ بعيد -وهو منهم- باتت أشبه بـ‘‘شُرّابة الخُرج’’،لا تحلُّ أسقاماً ولا تربط جروحاً،ولكن أيضاً لأنني تعبتُ من عذاب الإحساس بالأمل دون جدوى،فحسمتُ أمري عند أول فرصة أتت كي أعبّر للموت عن عظيم إحترامي،كي أدين لهذا القاتل بالولاء الكامل وأودّع برضا تام فقيديّ:ابني والذي غادر في هدوء وهو نائم، ومهنتيَ القديمة ..
‘‘شَدي حالك’’ أقولها وأنا أصافح ابنة المتوفاة الآن،كما تصافح أمها الموت في نفس اللحظة، وصافحه ابني في لحظةٍ سالفة،في كثير من الأحايين لا يجد المرء أمامه سوى أن يسلّم على عدوه، وقتما لا يمتلك القدرة على هزيمته، وكما قيل في الأمثال: ‘‘ما محبة إلا بعد عداوة’’..
أتساءل كل ليلة كيف يتسع قلبي لكل هؤلاء،كيف أتفقد وجوههم بشجاعة ملك موت وأسامحهم بسرعة وصول الورثة؟ ربما لأنني رأيتُ منهم ما كفاني، رأيتُ جثامينهم للمرة الأخيرة قبل أن أسلمَهم للعَدَم، مسحتُ عنهم البول والدماء واطَّلَعتُ على العَذِرة والعُذْرة ..ولَكم شممتُ ما أكره بقدر ما طَيّبتُ بما أحب..
الجزء الأصعب في الحكاية أنك تكون على صلةٍ بالميت،أنْ دَخَلَ طعامُه جوفَك وسقاك من مائه وكساك من ملبسه، كما هو الحال مع جارتي التي سأذهب فأراها للمرة الأخيرة كي أجهزها للعرس مثلما رأيتُ البارحة في الحلم، بيت الحاجة ‘‘أم إبراهيم’’ عامرٌ كالعادة،بيتٌ لا ينفد منه الطعام قلّ أو كثر،لا تدري كيف أو متى تم إعداده وهي إما جالسة أو نائمة،لا تقف سوى كي تذهب إلى دورة المياه على (مشّاية) كالتي يستخدمها الأطفال حديثو العهد بالسير،أوصت ‘‘ست النعم’’ -وهو اسمها- بوقوفي على غُسلِها،وعندما اشتد بها المرض سألت أولادها: ماذا ستحضرون لي في عيد الأم؟، قالوا: ما تطلبين،فقالت: أريد كفناً تشتريه ‘‘شَرّابيّة’’ من ‘‘عوف’’ وقولوا لها أم إبراهيم توصيكِ بطول السُّترة وكثرة الطيب.. 
في ‘‘عوف’’ زاغت عيناي على اللفائف بأقطانها وحريرها،اشتريتُ كفناً قطنياً وآخر من الحرير،قلتُ في نفسي لا أحد يدري، فكل ميّت ينادي كفنه،أما الليفة فكانت من النوع الذي أفضلّه، أليافها ناعمة ذهبية تشبه ذيل حصان أشقر ملفوف، لها شكل مغرٍ فتتوق النفس إلى حمامٍ ساخن بـ‘‘الكوز’’ كما كان الحال قبل أن يصير لديّ سخاناً،شعرتُ كأنها تناديني فسألتُ البائع إن كان بإمكاني شراء ليفة من دون كفن، فقال لا،صمتُّ وأنا أتأكد من وجود زجاجات المسك الأبيض والأسود والكافور والعود إضافةً إلى السِّدر،كلٌّ له وظيفته واستخدامه في أثناء التكفين..
تمنيتُ أن ترحل ‘‘ست النعم’’،وذلك لأني أحبها ولا أريد لها عذاباً،كانت تلك المرأة هي الوحيدة التي لا يصيبها النفور مني بعدما تحولتُ من حكيمة إلى مغسّلة،الإنسان يموت عندما تلفظه الأماكن التي يحبها.. ظلّت تطلب مني التغيير على قدمها المريضة من دون علمِ أبنائها أو أحفادها، المهم ألا يرى أحدهم ما آلت إليه،أم إبراهيم وأنا كلتانا تكره الأطباء،وبقدر كراهيتي للعودة لتلك المهنة فلقد وافقتُ من أجلها فقط،فكان مرض السكري اللعين ينهش أصابع قدميها وكنتُ أتفنن في العناية بهما،فأضعهما في الماء المملح وأطهرهما بتلك السوائل الداكنة قاتلة الجراثيم، رأيتُ كيف تتبدّل ألوان أصابعها بالتدريج حتى صار أكبرها أسود اللون،شعرتُ بالقلق ولكني لم أرد إخافتها،أعرف أن الأمر قد يؤول إلى بتر الإصبع أو القدم وأحياناً الساق! هؤلاء القساة لا يرحمون!
ساورني القلق، ذلك الذي بتُّ أهرب منه طوال تلك السنوات،هل أقول لأبنائها؟ أم أحدّثها بضرورة رؤية طبيب؟ أم إبراهيم لا تتألم مطلقاً، لا تشعر بيدي حتى عندما أضغط على جراح قدميها المفتوحة، لماذا أزعجها وأعرّضها لشيء بشع اسمه البتر؟ لمَ لا أدعها جالسة هكذا بابتسامتها الواسعة عندما تسمع صوت ‘‘صليب’’ بائع السمك منادياً فتطلب مني شراء البلطي الصغير وسمك المكرونة منه؟ وتفرح بالقشور عندما تتطاير -وأنا أنظفه بجوارها-إلى حجرها، أشوي البلطي وأقلي المكرونة ونأكل سويًّا؟ أمرٌ لا يحدث سوى في بيت ‘‘ست النعم’’ التي لا تخشى من نذير الشؤم ‘‘شرّابيّة’’!  فتكتّمتُ سواد القدم كي أنقذ قلبها من سواد الفقد إذا أتاها زاحفاً..!
كل شيءٍ معد الآن، الكل ينتظر شرّابية ويستقبلها باحترامٍ، تماماً كما شيّعوا طبيب الصحة حتى الباب، من تحت نقابي تطلّعتُ إلى نظراتهم الحزينة المختلطة بالحيرة، بين الصمت والبكاء والصراخ، توجهتُ إلى حجرتها فلمحتُ أسطوانة الأوكسجين مرتكنة إلى إحدى الزوايا،تذكرتُ أني نسيتُ إحضار ‘‘صبغة جاوا’’ معي اليوم،كانت تخبرني أنها تشعر بالغرق،كأن الماء يغمر صدرها حتى أنفها،فأجعلها تستنشق بخرها الساخن المتصاعد إلى أن تظهر عليها علامات الراحة لأنها تمكنت أخيراً من جذب نفس عميق..وجدتُها فوق السرير المعدني المنصوب من أجل الغُسل،فإذا بها راقدة بلا حراك،وقد لفّوا حول وجهها منديلها الأزرق القديم  بزركشته من الورد الأصفر والأحمر،كأنه قطعة (قماش خيّامية) فلم يحكموا ربطه، يتدلّى فكها السفلي فظهر سنها الفضي،عيناها مغمضتان،في كل منهما خيطٌ لامع دقيق تحت أهدابها البيضاء،بدت ست النعم كأنها نائمة لدرجة أنني تشككتُ في موتها..وضعتُ يدي على قلبها فكان صامتاً،قلتُ السلام عليكِ يا أمي فلم ترد، قبّلتُ يدها وجبينها وبكيتُ،من دون صوت،لا ينبغي أن تبكي شرّابية أمام أحد..
طلبتُ أن يخرج الرجال جميعهم من المنزل،طلبتُ الكثير من الماء الدافيء، طلبتُ كذلك أن تبقى من تقدر على احتمال الغُسل ممن أوصت بحضورهن،بسطت اللفائف وكان لا بدّ من تخييطها في بعضها البعض لتستوعب جسدها الممتليء فانهمكت بناتها في القيام بهذا العمل، بينما شردتُ أنا في تلك الحركة شبه المستمرة والتي كانت تقوم بها في آخر أيامها وهي غائبة عن الوعي،كأنها تخيط شيئاً،نادت ست النعم عليّ ضمن مَن نادت،على ‘‘رئيسة’’زوجة التُربي وعلى زوجها المتوفّى وعلى أخواتها الراحلين جميعهم..كنتُ أتعجب كيف تمرض تلك المرأة برأسها ورئتها وهي التي كانت مغرمة بأكل رؤوس السمك وخياشيمه؟
أخرجتُ الليفة الذهبية وقد بقي اثنتان من حفيداتها واثنتان من بناتها،ابتسمت لهن وأنا أضع كفي فوق جبينها المُندّى فقلت تلك دلالة على حسن الخاتمة فاشتد بكاؤهن،أخذتُ في صب الماء صبًّا فوقها وهي مغطاة بملاءتها المفضلة.. لماءِ الغُسل صوتٌ مختلف فوق الجثامين، يذكّرني دائماً بالتخلص من جنابة الليلة الأولى،وغسل آخر ليلة من ليالي النفاس،تلك الحياة ! كيف لا يصير فيها شيء ذا قيمة سوى ذلك الذي يشبه الرحيل عنها؟
ليفةٌ طيّعة ناعمة..خُيّل إلي أن أم إبراهيم تستحسن الأمر،انفرج فكها قليلاً خاصةً وأنا أصب الماء فوق شعرها،قسمته ثلاثة أجزاء وبدأت في تضفيره ،هرعت الحفيدة الكبرى في تضفير جزء وأشارت إلى الأخرى لتضفّر الشعر المتبقي، قالت لها: ضفري، فذلك جيّد لمن لم تنجب بعد، تعجبَت الصغرى ولكنها فعلت كما طُلِب منها،كانت تبكي بكاءً مرًّا وتهمس لست النعم بأنها تضفّر شعرها الآن كما اعتادت هي أن تفعل معها في الصغر وباتت تحدثها: ‘‘ضفريه عشان يطول’’..
الآن وبعد الغُسل الأخير أستطيع أن أشتمَّ رائحة الأطفال الرُضَّع تفوح من جسدها الطري،الآن يحضر الملائكة من حولنا ليؤمّنوا على الدعاء لها،أحشوها بالقطن،وقلبي محشوٌّ بالفقد،ألفُّ حولها الكفن مثلما اعتدتُ أن أربط جروحها،طبقات ..طبقات .. القدم المريضة غادرها السواد، لا لأن الجرح قد طاب ولكن لأنهم بتروها..
لا فائدة ، العجز يطاردكِ من جديد، قدمها المبتورة ليست هنا،فمها مفتوح لتسقيَها -يا شرابيّة -ولا تقدرين ..كثرة الطِّيب لم ترد دود الأرض عن ابنك..
لن آخذ مالاً من ‘‘ست النعم’’،لكني سآخذ تلك الليفة الذهبية،سأغتسل بها الليلة هي و‘‘الكوز’’ الألومنيوم،سأدسُّ أنفي في صحن كبير مملوء بالماء الساخن وأذوّب فيه صبغة ‘‘جاوا’’ فأستنشق بعمق كي يتطاير معها مخاط الأحزان اللابد في روحي،سأشتري أكلة سمك من ‘‘صليب’’ ،وأحيكُ من الكفن الحريري عباءةً،ثم أبحث عن عرس في الحي غداً لأحضره، ذلك ‘‘الحي’’ كالحياة ،لا تنفد منه الأعراس ولا المآتم أبداً..

نُشرت في أخبار الأدب أبريل 2016