Wednesday 30 October 2013

طبيب غلبان فى عنبر سلطان


              كلما أذاعوا هذا الفيلم, ضحكتُ عند المقطع ذاته بنفس مقدار السخرية والمرارة ..ضحكتُ حتى تلك الدمعة التى تفرّ دونما قصدٍ منى .." أنا قلت لأبوية مايدخلنيش كلية الطب ..ياريتنى دخلت كلية البوسطة فى طنطا .."

مدرّج المحلّاوى الكبير.. السلّم الذى خطر ببالى أن أحصى درجاته أول مرّة, فعانيتُ من نَهَجَان أنسانى الأمر للأبد, وشغلنى بتكرار التجربة المؤلمة كل يوم ..وكان يشبه بالنسبة لى سلالم قلعة حصينة وعلىّ أن أدخل لأنقذ الأميرة حبيسة الغول الضخم ..ذلك البساط الأحمر الذى رأيتُه منذ وقتٍ قريب ممتّدا أمام مبنى المدرّج للاحتفاء بالطلبة الجدد والذين قد شعروا بأهميةِ نجوم مهرجان "كَان" السينمائى ,فامتزجت بداخلى مشاعر شفقة تجاههم وتجاه نفسى ..
رجل مثلى قد تجاوز الخامسة والثلاثين عليه أن يرثى حاله بالطبع , لا لأنه لا يزال وحيداً بلا زوجة ولا لأنه محرومٌ من كلمة "بابا" أو لأنه يكسو نفسه بالكاد صيفاً وشتاءً فحسب بل لأن هناك مَن هم يتعلقون برقبتِه ..أم وأخوة ..لا يسد حاجاتهم راتب وزارة الصحة الذى يتقاضاه , ولم يدخر مليماً لنفسه ..
لستُ عاشقاً للنكد ولا أنوى العبث بقبر مآساتى التى أحاول جاهداً إخفاء معالمها عمَن حولى ..عن الفرّاش باش الوجه الذى تزوج بالأمس ووجدتُ نفسى أغبطه , عن تلك الطبيبة المتألقة فى زيّها الأبيض وعطرِها باهظ الثمن "عنبر سلطان" حديثِ المستشفى العام الفقير, والذى ذيّلته باسم فرنسى لا أستطيع ترديده ثانيةً وهى تخبر زميلتها به فى صالة الاستقبال التى تعجّ بالمرضى وبمَن هم على وشك الموت ..عن من أيضاً أخفى حالى ؟ عن مدير المستشفى بسيارته الأحدث موديلاً ؟ أم عن الممرضة التى تتحرش بى ليلاً وضبطتها ترقص لزميلى فى كَبسة غير متوقعة؟ هل أنا هكذا أزدرى الممرضات المصريات؟ ..حاشى لله..تلك الممرضة تحديدا فى أهمية "عايدة" ممرضة الإسكندرية التى ساعدت 23 مريضاً على الموت كى تخفف آلامهم..إحدى ملهمات الأعمال الدرامية والتى أفرزت  "أوبرا عايدة" من وحى شائعة حب "أبو هيف" محاميها لها والذى أنقذ رقبتها من حكم بالإعدام ..



لسنا بمنأى عن السمعة السيئة – كى أكونَ منصفاً – بصفتنا أطباء فى العموم .."جاك كيفوركيان" الطبيب الذى عندما سألوه عن تخصصه قال : تخصصى الموت ,بالطبع ليس لأنه يعمل فى إحدى مستشفيات وزارتنا الموقرة ولا يجد أدوية يعطيها للمرضى ولا لأنه يقف عاجزاً أمام مئات الحالات التى يفتك بأكبادها ورئاتها ودمائها السرطان يوميا ..بل لأن الرجل يساعد على القتل الرحيم بصنع آلة تبث سموماً فتاكة ..ويشجع مرضاه على انهاء حيواتهم بأيديهم باستخدامها ليموتوا بشرف ..عازف الجاز والناشط الحقوقى والرسام "جاك كيفوركيان" الذى مات فى نفس تاريخ موت أول سيدة تقتنع بفكرته, صار أيضا ملمهما ومثّل دوره آل باتشينو فى فيلمه الشهير..

الأطباء رائعون ..أنا أحبهم ..غير أنهم زملاء مهنة إلا أنهم كائنات تستطيع أن تسلّيَك وتقتل مللَك وتهوّن عليك وحدتك ..الصغير منهم والكبير ..الصديق والعدو ..الناجح والفاشل ..منذ زمن , عندما استفاض الأستاذ فى محاضرته يوماً ما وأخذ فى شرح درس "الالتهاب" فى مادة الفيسيولوجى وداعب بخياله الخصب عنفوانَ شبابى عندما تطرّق إلى "توسع الأوعية الدموية" ورسم لنا صورة امرأة بيضاء جميلة تضع ساقاً على ساق لفترة طويلة ثم تسأم وتغير جِلستها لتتضح تلك البقعة الحمراء الداكنة على فخذها مكان اتكّاء الأخرى عليها ..قنعتُ لفترةٍ طويلة أنه يحكى نفسه ..يحكى عن امرأة رآها وأحبها ورغب فيها فقط عندما غيّرت جلستها..
آه ..تلك الذكريات البعيدة ..نعم.. أريد اجترارها لعلّى أنسى حاضرى ..أنسى تلك الطفلة التى رأيتُها تتحول إلى زرقة الموت بين يديّ أمس ..كنتُ أبكى فى بادىء الأمر ..كَم بكيتُ مرضاى ..وكم سمعت من وصايا أخيرة ..وكم قالوا لى تلك الكلمة المرعبة بنظراتهم الجامدة فى النزع الأخير " أنا خائف " ..هل شعرتُ بالذنب يوماً لأجلهم؟ ..فى بادىء الأمر كذلك ..طاردتنى وجوههم وأمراضهم وطرق موتهم ..أما الآن ؟.. نعم ..نعم ..تذكرت ..شعرتُ بالذنب منذ شهر تقريباً ..كنتُ أركب الترام وجاءت محطتى ونزلتُ , سبقتنى ببضع خطوات فقط امرأة سوادء أظنها تشبه نساء الصومال ما أن تركت المسكينة الرصيف وهبطَت إلى الأسفلت صدمتها سيارة مسرعة وداست إحدى ساقيها وانطلقت ,سمعت ارتطام لحمها بحديد السيارة التى لم تتوقف.. اقشعر بدنى عندما رأيتُ عظامها مشوهة فى أكثر من مفصل وجسدها تغطيه الدماء , ولكننى لم أجرؤ على الاقتراب منها , وكنتُ قد عبرت الطريق بالفعل , صاح الناس مِن حولى وهم لا يعرفون كيف ينتشلون جسد امرأة من وسط طريق كل سياراته مسرعة ..لسوء الحظ , فى بلد لا يخلو فيها طريقٌ إلا مصادفةً ..!
لابد أن أشعر بالذنب تجاه نفسى ,أنا الذى لم يفعل شيئا لنفسه قط ..خاصةً عندما قالها النقيب السابق حمدى السيد :تجوز الصدقة على الأطباء ..حاولتُ مراراً ألا أكون مسكيناً..قالوا لى زملائى الإضراب هو الحل ..أضربنا ..ولم يسأل فينا أحد ولم تنصفنا ثورة ..قالوا لى تعال لنحضر اجتماعات الجمعية العمومية لنكون ايجابيين , سبّنا إخوان النقابة .. تظهر عفونة أمين عام الصندوق الأسبق عصام العريان على السطح حيث كشف مندوب الجهاز المركزى للمحاسبات وجود عجز فى ميزانية النقابة العامة وصل إلى ملايين الجنيهات بعضها فى النقابة العامة فى العام المالى 2011 أثناء توليه المنصب بالإضافة إلى وجود خلط بين أموال التبرعات وبين مصروفات النقابة ثم .قامت ثورة أخرى ولايزال الإخوان ينخرون فى جسد النقابة ويمثلوننا دون موافقةٍ منا ..منى على الأقل ..



عندما أستمع إليك د.وسيم السيسى أشعر بالفخر حقاً وأعترف أنك تجعلنى أنتشى بجدّى "إيمحوتب" مخفف آلام المصريين بانى هرم زوسر بحديثك عن مصر القديمة وثقافتك وبراعتك العلمية ..ثم أنظر إلى ما آل إليه الطبيب المصرى فأتذكر ربع مليون جَد على الأقل أُخذوا قسراً فى السخرة ..!
هل صرتُ كئيباً ؟ لا ..لن أعترف بذلك ..سأذهب مجدداً إلى الوراء ..إلى درس الرمد فى المدرج الصغير عندما ضحكتُ من أعماقى على تدريس إصابة شعر الأهداب وشعر العانة بالقَمل ..!

Sunday 27 October 2013

زهرة الرابعة مساءً


                               


تأخّر كثيراً أن تربّى زهوراً , إضافةً إلى أنها لم تفكر من قبل كى تقتنىَ حيواناً أليفاً ,ولَكَم أشفقت على الطيور حبيسة الأقفاص ,وعلى السلاحف المعمرة التى تسكن بيوت بعض أصدقائها.. إنها لم تحرص حتى على تربية أظافرها , وكَم تعجبت منها جارتها الشابة الجميلة عندما استقلا المصعد معا وتأخّر صعوده لعدم إحكام الباب فجذبته بقوة بأظافرها غير مباليةٍ بانكسار أحدهم وصاحت  كمن تريد إيقاف جريمة "أظافرك!!", فلم تفعل شيئاً سوى الابتسام وغمغمت فى سرها بكلمات ساخرة..

على أيةِ حال, شعرت أنها تحتاج إلى تربية شىء ما يدخل السرور إلى قلبها , يغمرها احساسٌ بالوحشة تجاهه وترتبط به عاطفيًّا وتنتظر أن يكبر يوماً بعد يوم , ربما ادخرت سنينَ طِوال تلك المشاعر لكائنٍ من لحمٍ ودم ينبتُ منها ولكنه لم يأتِ بعد إلى عالمها المزدحم  وربما ظلٌ لشبح كان يطاردها دوماً كى لا تربى شيئاً, اسمه الخوف من الفقدان ..

فى أَوْج حماسها بالفكرة قررت تكوين حديقة صغيرة فى شرفة منزلها, وقامت باختيار النباتات بشكلٍ عشوائىّ وزَرَعها البستانىّ أمامها فى أحواض من البلاستيك, أصرّت على اختيار الياسمين البلدى وزهور أخرى لم تكن تعرف اسمها فقال البستانى أنها "الونكا" ثم اختارت لونين متكاملين من "الكوليوس" مع مجموعة من الزعتر وإكليل الجبل والشاى الأخضر ثم حوض من النعناع وأخيراً ذلك النبات الليلى  "مسك الليل" وقرينه "شب الليل" ..



بدت شجرة الفل القديمة غيوراً من الزرع الجديد النضر, فكفّت عن طرح وردها الأبيض وتساقطت أوراقها ويبُست فروعها , شعرت بالذنب تجاه الشجيرة فلم تكن تدرى أن ما حدث لها طبيعياً مع الخريف ..عكس الرَياحين والذى ربما يوحى اسمه بترحيب حاضن فقد كبر وبدا بفروعه الخضراء وبراعمه البيضاء أجمل وأعذب عطراً..

فى الليل, حيث تجلس فى شرفتها المزهرة ,يعطِفُ الهواءُ البارد مزيجاً من رائحتىْ الياسمين ومسك الليل , تراقب قيعان الأحواض لتحصى عدد الزهرات الساقطات وتقاوم رغبةً بداخلها فى التأثر, ثم تشرد طويلاً فى حلم تركيب مشربية خشبية مستديرة الشكل تحتضنها بهذا العالم الصغير ..موسيقاها الشرقية المفضلة تملأ المكان ثم تلتفت إلى زهور "شب الليل" التى تتفتح مع بداية انكسار ضوء الشمس , وتغلق مع الصباح وتمتلك بذوراً سوداء تفرزها فى وجه الدنيا ..تشتمّه للمرة الأولى فتصيح من فورها "فُل!!" ..عطرٌ من الفُل المركّز يفوح من الزهرات الصفراوات والحمراوات ..استولى عليها فضولٌ لتقرأ عن ذلك النبات فيُقاد إليها تاريخه بأكمله, "الجالابا" ,"زهرة الرابعة مساء " و "أعجوبة بيرو "  أسماء أخرى تُطلق  على النبات الاستوائى ..
                 

قادها البحثُ إلى أدباء وشعراء بيرو ,تُراهم ماذا قالوا عن "الجالابا"؟ تلك الأعجوبة المتمردة على ضوء الشمس ..هل سيلقبونها بعشيقة القمر؟  تتذكّر "ماريو بارجاس يوسا" الأديب البيروفى الحاصل على نوبل ,كيف لم تقرأ له من قبل؟ مع الصفحات الأولى لروايته "حفلة التيس" يبتدئها المؤلف بأغنية شعبية من "الدومينيكان":

الشعب يحتفل بحماس كبير بعيد التيس

فى الثلاثين من آيار قتلوا التيس  ..

أعجبها ذلك, فمن الطبيعى –بالنسبة لها - أن تُلهم موسيقى صادقة كلَ كتابةٍ صادقة ..البطلة تسمى "أورانيا " ..يالَه من اسمٍ رائع ..تغزّل فيه الكاتب أيضاً ..التهمَت الصفحات حتى صادفها ذلك المقطع على لسان الزعيم الأرجينتينى "بيرون" : 

"كن حذرا من القساوسة أيها الجنرال, فليست الأوليغارشية(حكم الأقلية)  ولا العسكريون هم من أسقطونى وإنما ذوو المسوح فتحالف معهم أو اقض عليهم دفعة واحدة"  ..

                       

فى مقطع آخر  : "يمكن للكولونيل أن يكون شيطانًا,ولكنه مفيد للزعيم فكل ما هو سيىء يُنسب إليه, بينما يُنسب الجيد إلى "تروخيو"(الزعيم) .. هل هناك خدمة وفائدة أكبر من هذه؟ فلكى تستمر حكومة لمدة 30 سنة لابد من وجود "جونى أبيس" يدس يده فى القذارة بل ويدس جسمه ورأسه إذا اقتضى الأمر ..إنه يحرق نفسه ويستقطب كراهية الأعداء وأحيانا الأصدقاء ..الزعيم يعرف ذلك ولهذا يستبقيه إلى جانبه ولولا أن الكولونيل يحمى ظهر الزعيم لما كان بالإمكان ضمان ألا يحدث له ما جرى ل"بريث خيمينث " فى فنزويلا و"بيرون " فى الأرجنتين و"باتيستا " فى كوبا " ..


مرة أخرى تقودها الأشياء الجميلة إلى عالم الصخب, والصراع الذى تفضّل أن تنأَى بعيداً عن ضجيجه, السياسة المهلكة مرة أخرى ..! لا مفر إذن ؟ ستجرب 100 سوناتة حب لبابلو نيرودا ..لا فائدة .. لأنه فقط بابلو نيرودا ..وكأن الأحاديث عن الثورات
وأصحابها فى كل الدنيا باتت تدور فى تكرارٍ أبدىّ ملل  ...




لطالما شعرت وكأنها تلك "النوتة" المنقرضة مرتّبة الصفحات حسب حروف الهجاء للإحتفاظ بأرقام التليفون , هل يستخدمها أحد الآن؟ .. نصف وزنها موسيقى ونصف عقلها جنون ..الطريق الذى تخوضه يومياً من البيت إلى العمل قادرعلى أن يُسقِم قطة عرجاء لا تجد ملاذا إلا الشارع ولكنها لازالت ترى فيه ما يُبهج القلب..تستنشق الهواء بعمق ولو كان مختلطاً بعوادم السيارات وعرق البشر وانكسار أحلام البسطاء ..

ستظل تبتسم لكل طفلٍ تربكه درجات السلم الكثيرة فيهبط مبطِئاً مرتكزاً بكلتى قدميه معاً درجةً ..درجة , وتقرأ بلا هدف وتكتب لصدى الصوت وتعشق الخيال وأبداً لن تهرب من الوحدة وستتلقّى - كما اعتادت- الحوادث العارضة  كرسائل من الله ..

 ستظل تتساءل : لماذا هى كذلك ؟ ولماذا لا يتغيّر العالم من حولها؟ 

Saturday 26 October 2013

شجرة المسافر

وشجرةٌ خلف الضلوع يقال لها القلب.. 

رىٌّ لظمأى الطريق كشجرة المسافر ..

طويلٌ فيها الألم كعُمر الصنوبرة ..

بألوان الطيف عشقها كجذع الكافور ..



تطرح حيناً تمراً وحينا جوزاً كالنخيل ..


عن تلك الشجرة سأتحدث ..