Friday 4 July 2014

خُفَّا حُنيْن




وصلا متأخّرّين  وكان ميعاد الزيارة قد انتهى, امتعضَتْ فلم يحتمل خيبة الأمل التى اعتلت وجهها ,رشى الحارس ودخل من البوابة, سبقها إلى الداخل وكأنه يدعوها لدخول قصره الكبير! مشت على استحياء محاولةً أن تتأمل الجدران والشرفات والرخام الذى يصطدم بكعبها العالى فيصدر صوتاً يخيفها ..لم يكُف عن مناداتها ..مستمتعاً برنين صوته وهو يصدح باسمها بين أركان الفراغ الواسع .. أتُراه يترك حروف اسمها عند كل جدارٍ ليألفَها ويرحب بقدومها,أم ليسجّل ملكيتها له؟! أمّا هى فحُرية النطق به وعذوبة سماعه من ثغره والقصر ثالثهما شىءٌ يصعب عليها تصديقه فى تلك اللحظة..!

قالت فى نفسها "ماذا عساى أن أفعل فى الصوت الذى يسكننى الآن ؟ الصوت الذى ترتج له أعماقى ؟ صوتٌ لا فكاك منه ..صوت مقتحم  لم يَطرق باباً أبدا من قبل  , تشّرع له الأبواب ذاتياً ليدخل قلبى ..متآمر صوتك مع أبواب قلبى .."يعملوا مؤامرة علىّ ؟" ...نعم فتحت كل شىء ..غزوت دمى وزرعت نبتتك فى كيانى .. "ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد ويثمر الوجد تحريك الأطراف إما بحركة غير موزونة فتسمى الاضطراب وإما موزونة فتسمى التصفيق والرقص" يقول الغزّالى ..وَجْد! هذا هو تماما..سواء كنتَ هامساً  فى أذنى برقة فأخشع بروحى تحت وطأة الهمس وجبروت الهمس وروعة الهمس الرجولى  ,أو متحدثاً بعدم اكتراث بكلمات تحسبها تمر مرور الكرام على قلبى !, متظاهراً بالشدة فألين  , مستسلماً لدلالى فأغترّ, محاوراً بجدية فأصمت , ضاحكاً متضاحكاً فتُغمِرنى فى بحرٍ من السعادة ..

هل أنت البحر الأزرق الذى يحدّثنى بكل الأسرار دون كلمة واحدة عندما يتنهّد؟ أم أنت محارته التى تتنفس فى الأذن ؟!

صوتك وزن القصيدة وإيقاع الأغنية  ورجع صدى الشريد ..صوتك وهمٌ وسراب مرتهن بالحقيقة ..وسادة قَمَر ..وقع الندى على عشبٍ أخضر ..أنت بصوتك كالمطر ..

خشن صوتك ..خشنٌ وعذب ..خشنٌ ورائق ..كل حرفٍ هكذا تنطقه ينثر شراعا فوقى ..آتٍ ومرتحلُ ..".

ظل يسرع الخطى أكثر حتى اختفى عن ناظريها ..يناديها ثانيةً ..تَتَتَبّع صوته الذى بدا مجسمّاً وسط عراقة وجمال ما تشاهد..تسير بين البطء والإسراع مأخوذةً بسحر المكان وسحر الصوت ..تتأمل الحلم الذى تسكن فيه ..هى وهو فى قصرٍ أثرىّ ..بيتِهما لبعض الوقت ..كانت خطواته واثقة ..لم يتعثّر ولم يتردد لحظة وهو ينتقل كالطير من باحة لأخرى ..مخلّفاً وراءه عطراً اجتَهَدت لتلملمَه أنفاساً تجتذبها بعمق..

وبدأت تتخيله هنا جالساً مع علية القوم من أشراف المحروسة وهنا مستمعاً إلى شكاوَى المظلومين أما هنا فالقطع الذهبية تهوِى على أرضية القصر رنّانةً فى الآذان تُعطَى للمحتاجين ..جَوارٍ تتضَاحكن قاذفات بعضهن بالورود والحرس يختلس النظر متظاهراً بالثبات والحزم..جلساتٌ فوق النمارق المشغولة بخيوط الذهب وأنغام الموسيقى تعلو فى البهو ورذاذ ماء الورد يملأ الهواء المحيط بهما ..

"أقْبِلى.." قاطعاً الصورة التى كانت ترسمها ..وصَلت إلى باحةٍ -برغم رونقها- إلّا أن وجودَه لازال أغلى ما فيها ..

لكم من المرات حَلُمَت بتلك اللحظة وصحَت من نومها قائلةً آآآمين ..كم هو رحيم أن يكون هناك "السماء"  لتظلك مع مَن تحب ..سلوى لمَن لا يجد سقفاً شرعياً يجمعه به ..
ولكن حدث وأصبحا بين عشيةٍ وضحاها فى قصر رحيب, وفى باحته الظليلة انكسر ضوء الشمس ليداعب إحدى الزوايا متلصصاً على الحبيبين من خلف ستار القدر ..امتدّت يده نحوها:

"تعالى اجلسى ..ألا تريدين تجربة هذا الكرسى؟!"

"بلى, أريد .." ,  قالت مبتسمة,مدّت يدها إلى يده فأقبض عليها فى حنان وأمسك بمرفقها حتى أجلسها ..كطفلةٍ تلهو فوق كرسى طائر فى الملاهى ..قدماها الصغيرتان ترتفعان عن الأرض ..تحركهما ذهاباً وإياباً ..وقف يتأملها وبصرُهُ متعلّق بها ..كلما نظر إليها تذكّر كم هو مغرَقٌ فيها ..ألم يقل ابن حزم أن أولى علامات الحب إدمان النظر؟ يبتسم مستسلماً وقد هدأت أنفاسه المتلاحقة من أثر خطوته السريعة ..تٌرى ماذا يعادل أن ترى حبيبتك أمامك كحوراء تقصر الطرف لك وحدك؟؟! أى قلبٍ يحتمل تلك السعادة؟! رغماً عنه سيطرت عليه فكرة احتضانها ثم تقبيلها! ولكن عقله يُملى عليه مالا يجب فعله أبداً ..ما أسوأ أن تكون على حق أيها العقل بهذا الشكل المستفز! 

شعرَت بصراعه الصامت الذى فضحتْه عينا الصَبّ..قَرَأت استجداءه لذراعيها كى تضمه ..انبعثت فيها النشوة بغرور الأنثى عندما تتقلّد الأمور بين حركة ونظرة ..ولكن ما فائدة ملكة على عرش قلبه فى مملكةٍ لا وجود لها ؟!

"تعال لنجلس على تلك الأريكة الخشبية سويًا ..هذا الكرسى لا يتسع لكلينا " قالت بصوتها الرقيق الخفيض ..تلقّى كلماتها بحبورٍ فجلسا تحت النافذة الخشبية الممتدة. التقط  يدها واحتضنها وتخللت أصابعه أصابعها ..إبهامه يداعب إبهامها ..منتشية بخشونة راحة يده المتعرّقة وتود لو تخدش راحتها !

خطوات الحارس وقبل أن يقولا أى كلمة كانت هى صاحبة الكلمة المسموعة فى القصر ..ليمحو بخفّيه الثقيلين كل أثرٍ لهما ..هكذا بالحارس المرتشى أيقظهما القدر مذكّراً أن القصر ليس لهما وأن الرشوة التى دفعوها قد انتهت صلاحيتها ..!

كسجّانٍ سادىّ تَقَدّمهما ليعيدهما ثانيةً إلى زنزانة الحياة بعد اقترافهما تهمة استغلال القصر للحلم غير المرخّص ..آدم وحواء خارج الجنة من جديد بخفّى "حُنين" و"الحَنين" , بين معيّةٍ كادت تذيبهما وبين مرآة عجزه الكبير ودمعةٍ رقراقة فى عينيها ..وضجيج البشر على أعتاب القصر, وشبح شيطان يتراقص فرحاً ساخراً..!

No comments:

Post a Comment