Wednesday 22 November 2017

زمن الصبّار


قبل النزول من البيت، عندما يصبح النظر في المرآة شبه حتميّ، وبرغم السنوات المحفورة في ملامحي، والطرحة الحمراء التي قررتُ ارتداءها في هذا اليوم بلا قصد، تذكّرتُ فتاة عيد الحب، التي تعاقب عليها أعيادٌ قضتها كمراهقة يُكتَب إليها الشعر الركيك المفعم بالمشاعر الجامحة، والذي تفوح من أبياته روائح هرمونات البلوغ الطاغية، أيامٌ أُخَر قضتها في ظل رجلٍ تعشقه، تبادلا الهدايا الثمينة، عندما كانت الصور هدايا ثمينة.. وفي غيرها كانت تتعافى من عشقه، ثم كانت أيام الظلال أو استراحات المحاربات -كما تسميها- بدون رجال، وفي أعيادٍ أخرى مع أنصاف أو حتى أرباع الرجال، بل ومع خِناثٍ أيضاً..
والخناث هنا لم تكن بالطبع الزهور الجميلة مكتملة النضج والتي تحمل أعضاء الذكر والأنثى في نفس الوقت، بل تلك الكائنات المترددة بين الشيئين، التي يُفعل بها ولا تفعل أبداً، ذات المواقف المائعة، كائنات تشبه السياسيين في دول العالم الثالث.
ثم هَجرَت أعياد الحب لفترة طويلة، فكان عيدها يوم رأت فلاناً لأول مرة، أو عندما صارحها علّان برغبته في الارتباط بها، تتذكر تلك التواريخ كبراهين قاطعة على أنها ستظل امرأة محبوبة ومرغوبة على الدوام حتى ولو لم تكن تسعى للحب..
وكان يأتي الحب من دون أدنى استثارة منها، فلم تكن تلعب في أذن الوحش النائم، أو تجرؤ على دخول كهف التنين، التزمت بكل ما سنته الشرائع كي لا تلفت الأنظار إليها، وأحاطت روحها بخجلٍ طويل الأمد يصل إلى حد الإنطواء، ودّعت الفتاة المنطلقة التي تمشي بشعرٍ مفرود لا تجتهد في تخبئة ما أراد أن يظهر منها رغماً عنها، فكيف تخفي استدارة نهديها النافرين أو حلمتيها المنتصبتين في البرد الشديد من خلف حمالة الصدر الطريّة؟ ودّعت الفتاة البكر التي كانت تتعامل مع جسدها كجسد امرأةٍ حبلى لا يمكن أن تخفي جنينها عن الأنظار، ولا تريد ..فليس هناك عيباً في امرأة حبلى ولا أنثى جميلة..
لم تسلَم أيضاً هذه المرّة، فطرق المحبّون بابها بعنف تارة وبأدب تارة، ومنهم من استطاع التسلل من الأبواب الخلفية فسرق اهتمامها ثم حبها أيضاً، فأعادها بلا شفقة إلى جحيم الظلال من جديد..
صحت من نومها ذات يوم..وبالتحديد ذات عيد حب..أمام نفس المرآة التي تقف أمامها الآن لتكتشف أن دفترها فارغ تماماً.. أنها لا تحمل في قلبها ذكرى جميلة واحدة لأحدهم لم تُلوَّث بالنوايا السيئة، اجتهدت كي تتذكّر، حاولت مثل كل بطلات الأفلام فاقدي الذاكرة أن تجتر أي تاريخ، تبحث عن كلمة أو ورقة تصلها بماضيها المفقود في كل أعياد الحب السابقة التي طالما احتفلت بها فرحاً وحزناً، حضوراً وغياباً، فأدركت أنها أخيراً قد شُفيَت من آثام محبيها، وأن ملائكة النسيان قد محتها من صحف الأعمال..
في هذا اليوم تحرّرت من هواجسها ومخاوفها، أيقنت أنها وهي في الثلاثين من عمرها قد أدركت بلوغاً عقلياً لطالما رفضه جسدها، كان قد تحوّل قلبها لقطعة من البلاستيك تضخ الدماء بانتظام، تصادف أن رأت فيلماً من أفلامها المفضلة (أربع حفلات زفاف وجنازة)، استمتعت بالفيلم كأنها تشاهده لأول مرة، و نسيت تماماً أن ‘‘هيو جرانت’’ كان يذكرها بالخِناث في حياتها السابقة، لا في هذا الدور فقط بل في أغلب أدواره، الرجل غير الواثق أغلب الأحيان، المحبط أو اليائس، أو المهزوم، أو المتعجرف، والذي لا يدرك قيمة امرأته إلا في تلك النظرة الأخيرة لها وهي نائمة بعد وجبة حب شهية، في الصباح وضوء الشمس يصافح وجهها، وهو مضطر لتركها!
هكذا كانت مستعدة للزواج، بلا قلبٍ قد يتألم لهجرٍ محتمل وبلا عقل متخم يؤرقها بالمقارنات، تزوجت فحاولت على طريقة الكيمياء أن تعادل كوابيس الخاتم الذهبي في اليد اليسرى بخاتم فضيّ في اليمنى يدرأ عنها تلك الأحلام المستحيلة التي سقطت في براثن الدبلة الذهبية..
ومرّ أول عيد حب، حرصَت على شراء هدية ثمينة بمفهوم العصر، وزهرة اصطناعية بديعة المنظر في أعلاها قطعة من الشيكولاتة بالمفهوم الذكوري المادي الذي لا يفهم الهدايا التي لا تؤكل، كان حصاراً وليست هدية، محاولة لسد أي فرصة للتقليل من شأن ما أهدته إياه أكثر من حرصها على أن تعجبه الهدية فعلاً، هل كان السبب في أنه لم يكن يفوّت فرصة واحدة لانتقادها؟ طباعها، وزنها، وحتى رائحتها؟ أم كانت -مسبقاً-تتوقع رد فعله حيال أي هدية ؟ كانت تعلم أن رد فعله لن يختلف عن الطريقة الباردة التي يعامل بها أنثاه، أو التي يعلّق بها على الطعام الشهي الذي وقفت تعده لساعات، صوتٌ كان يدويّ بداخلها ويخبرها بأن هذا رجل لا يمكن إبهاره..
في الوقت الذي كانت تظن فيه أن زمن الدهشة قد ولّى، فلم يعد هناك شيء بمقدوره أن يفاجئها، وجدت أمام باب بيتها ثلاث أصص، اختبأ زوجها خلف الجدار ليراقب رد فعلها عندما تفتح الباب وترى هديته: هدية عيد الحب!
اختلطت مشاعرها، لا ريب أنها فرحت في باديء الأمر، مثل الانتعاش الذي يولد مع بداية العطر، ثم أعقبت فرحتها فترة من الارتباك العاطفي، مصحوب بعدم القدرة على التمييز إذا كانت تلك الهدية تبعث على الفرح أو الحزن، ثم خاضت -وهي واقفة تقلّب الإصص- مرحلة التبرير: ‘‘على أي حال أراد أن يهديني شيئاً حيًّا’’! وبعد أن فشلت في إقناع عقلها بأنه لا عيب أن يهدي رجل زوجته في عيد الحب ثلاث إصص من الصبّار، صمتت، بينما دخل الزوج متعرقاً كعادته يقبّلها قبلة واحدة لا غير في خدها، حملت الإصص الصغيرة بحرصٍ شديد، خشيةَ أن تقع أي منها وخشية أن توخزها إحدى الكرتين الممتلئتين بالشوك، وتأملت الثالثة التي بدت ملساء دون شوك ظاهر، شردت: ما الذي جعله يشتري لها الصبّار؟ لقد قالت له بالفعل أنها تريد شراء بعض إصص الزهور وعددت أنواع النباتات التي تحبُّها، حاولت أن تتذكر إذا ما كانت قد تحدثت عن الصبّار فعلاً، تشككت في روحها ثم أجابت بعد برهة: بالتأكيد لم أفعل! ما الذي يدور في عقل رجل لا يبهره شيء مطلقاً يشترى ثلاث أصص صبار لزوجته في عيد الحب؟ هل يريد أن يدفن هذا الزواج على طريقة المصريين الشائعة؟ أم يريد أن يغذي روحها بالصبر؟ أم يبلغها بشكلٍ غير تقليدي بأن الرجل الذي لا يبهره شيء مطلقاً مازال في جعبته صبرٌ عليها؟ أم الأمر يتعلق بالأشواك؟..فاحذريني أنا وخّاز عند الاقتراب أكثر! أم أنا هذا الأملس دون شوكٍ ظاهر ولكني أعرف جيّداً متى أفرزه في وجهك؟
اعتنت بالصبّار عنايةً خاصة، كأم ابتليت بثلاثة أطفال منغوليين، وبعد أيامٍ معدودة  وجدت زهرةً بيضاء تخرج من أحدى الكرتين الوخازتين، كانت زهرةً في طريقها لتكون خنثى مكتملة النضج :ذكر وأنثى في آنٍ واحد!
المضحك في أمرها ما قالته لوالدتها التي تعرف شغفها بأعياد الحب، وطقوس انتظارها وتجاهلها، وهداياها ، أخبرتها بأنه اشترى لها ثلاث إصص من الصبّار النادر، كانت قد رأته في إحدى برامج ناشيونال جيوجرافيك وأبهرها بشكلٍ لا يصدق، وأنها تلح عليه في السؤال لتعرف من أين أتى بهم وإن كان قد دفع مبلغاً كبيراً من المال لجلبهم من خارج البلاد!



كُتبت في يوليو 2015 /مجموعة إنفلونزا -مجموعة قصصية