Friday 20 December 2013

تسكّع



أحاول أن أسبح بعيداً عن القيعان العكِرة نحو الماء الطَهور , كى تصفو الروح وتصحّ صلاة القلب الذى أنهكته المصالحات المُخزية ..سرتُ فى شوارع المدينة لأجدّد دمائى الراكدة ..مجرّد عملية إعادة ضخ لحظية كثيراً ما تبدو لى تكرارية عبثية بلا غايةٍ حقيقية أريدها لنفسى  .. أن أبقى على قيد الحياة ..يُضحكنى هؤلاء الذين يتحدّثون عن المجد والخلود..فى أحاديثهم المملّة وشعبذة أفكارهم التى تُسقمنى .. يضربنى الهواء البارد وأشعر به يغيّر ملامحى العابسة ..يُرخيها ثم يُجبرها على الابتسام ..يدغدغ عضلات وجهى الصغيرة لينشّط ذكرياتنا سويّاً ..أنا وهو ..الهواء البارد..

سأتوقف قليلاً لدى شجرة اليُسر الطاعنة فى السن  ..سأستند إلى جذعها وأتلمّس ثمارها الغائبة تحت الغلاف الداكن ..تبدو فارغة ..جافّة ..أتمنى أن تفاجئنى وأجد شيئاً مثل ورقة الحظ الصغيرة التى اعتادوا تغليف الشيكولاته بها منذ وقتٍ طويل ..أحتفظ بالعديد من الوجوه مثل وريقات الحظ وحظك اليوم وحدث فى مثل هذا اليوم وصدق أو لا تصدق وأملأ بهم أدراجى ..أغلفة الهدايا وشرائطها الوردية والحمراء والذهبية والفضية ..بعض أوراق الشجر ..بعض الورود ..بعض العملات ..بعض السنوات ..

أستطيع أن أرى قسم شرطة الحى من هنا ,حيث قمت باستخراج بطاقتى الشخصية الورقية منذ عقود..وعليها تلك الصورة التى أحبها -رغم حاجبىّ الكثيفين- بحمرة الخجل التى كانت تعلو وجهى ومن تحتها بصمة إبهامى وبجوار الوظيفة : طالبة .. السيارات الزرقاء الضخمة التى تخبّىء العساكر والمسجونين على حدٍّ سواء تلوح لى ..دوماً ما أبحث عبر مربّع الغربال الضغير علّى ألتقط وجهاً ينبىء بخبرٍ ما ..فضول يأكلنى تجاه فتاة تحت العشرين تحمل عامود الطعام التقليدى , مرتديةً ملابس تضيق عند الصدر والخصر والردفين تتجه إلى داخل المبنى الرمادى المُقبِض فى ظُلمة الليل ..تمشى بأناة وبثقة وبوجهٍ مثل "باليتّة" رسام مطليّة بالورنيش كى لا تمتص ما امتزج فوقها من ألوان, تقمصّت فى مخيلتى دورعروس نيل تقذف بجسدها فيه قرباناً واتقاءاً لشر فيضانه رغم كونها أسطورة لا صحة لها أبداً..

هناك ودّعتُ مرارتى للأبد فى تلك المستشفى القريبة وودعتُ كل من أعرفهم قبل الدخول ..وتمنيتُ ألا أعود إليها أبداً بعد خروجى, لا كراهية فى المرض فحسب أو ضغطاً لأتذكّر الألم غير المحتمَل بل لتزولَ من أنفى رائحة البِنج البشعة والفوران الذى أصاب خلايا مخى وأجبرنى على النوم لساعات قسراً دون أن أدرى ما سيفعله بى هؤلاء المحيطين الغرباء ..لا أريد أن أتذكر حتى ذلك الدعاء الذى همس به الطبيب فى أذنى كى أردّده وراءه وكأنه يلقننى الشهادتين ..

أريدُ أن أستأنف السّير كى تزول الرائحة من أنفى ..لا أخطئها أبداً ولا أخلطها بروائح أخرى تصعد من داخلى أحياناً مثل الدم الفاسد أو رائحة فم كريهة بعد القىء أو عطب الروح ..أخيراً رأيتُ مدخل فندق القياصرة ! بعد كل تلك السنوات التى لم أكن أرى منه سوى أعلاه ..بتلك اللافتة التى تحمل حروف اسمه الكبيرة الحمراء , بجديّةٍ تجاهد ميوعة اللون الأحمر بإيحاته كى يبقى الاسم وقوراً حدّ الإمكان .. الأحمر لون  يرمز إلى النفس المبدعة فى بعض العقائد القديمة على أية حال..

الشرفات المتقاربة العالية ولافتات العيادات ومكاتب المحاماة ومحال التيك أواى الشهيرة و"لوجو" يشبه "عشتروت" على واجهة محل القهوة الشهير  ..والمحل الكبير الذى يبيع كل شىء وأى شىء بأصفره الفاقع الذى لا يسر الناظرين .. والنافذتان الخشبيتان الداكنتان اللتان تشبهان مشرفية منقوصة وشجرة الشوك القريبة بنتوءاتها المغرية باللمس  ..صرير الترام وكرباج الكهرباء من أعلاه أشعر به يصعقنى ..الأرصفة قد خلت من العتّالين وحالة انتظارهم المزمنة .. ثم تلك الأرض الفارغة التى يحرسها غفير وأسرته فى عشة تجلس أمام بابها سيدة ممتلئة تسحق الملابس فى طست غسيل كل صباح ويتدلّى إلى رأسِها القطع المنشورة من الحبل الطويل ..هل هى نائمة الآن؟ ..

حان وقت العودة إلى البيت ..ولكننى لا أريد الصعود سريعاً , أودّ التلصص قليلاً على ذلك العقار القريب.. من أمام ستارٍ قصير يغطى بالكاد فوهة غرفة فى قاع بئر السلم ..(يالها من كلمة..بئر السلم ) أراه قابعاً فى إضاءة خافتة تنبعث من الغرفة الآن , ها قد صار وحيداً تماما فى الظلام الدامس الذى  يتصادف مع انتهاء ثوانى الإنارة والتى تعود بعد فاصل زمنى قصير .. الاسطوانة الزرقاء تشع دفئاً بقرب الحجرة التى لا ينحكم إغلاقها أبدا ..براد شاى قديم بجواره عدة أكواب صغيرة يغلى فوق الاسطوانة ..أحياناً أرى قِدر كبير تفوح منه رائحة طبخ ..وأغلب الأحيان تلك الرائحة التى لا أستطيع وصفها ..امتزاج الغاز بالدفء الذى يجلبه, بأنفاس تخرج من عدة أنوف وأفواه, فى حيز صغير يتسع لكل هؤلاء حتى للقطة الجائعة التى لم تشبع من قمامة الطوابق القليلة فجلست تبحث عن دف الحجرة ..

أتطلع بفضول شديد لأحصى عددهم ..لأرى بكاءهم أو أسمع أنينهم ..فى الحقيقة لم أكن أسمع سوى صوت القرآن ,أو مداعبة الأم لطفلها الصغير على الأرض ,أو بناتها الصغيرات بأقراط من الخيوط يلعبن بالدمية القطنية البسيطة المسرّجة بالفَاقَة ,مرسوم عليها بقلم الكحل قوسا الحاجبين وثلاث كرات :عينان وفم ..ومَن رسم قد تجاهل الأنف ..كيف يمارسان الحب فى هذا المكان ؟ سؤالى الذى لن يجيبه أحد ولا حتى تلصصى ! ..



Tuesday 17 December 2013

ليلى والشيخ والزَّبَاد



"السعيد هو الذى لا يمتلك لنفسه قميصاً" ..ضَحِك عالياً مردّداً إياها بصوتٍ مرتفع..ينظر إليه أحد المارّة بانزعاجٍ اختلط بالشفقة فأخرج من جيب سرواله بضع عملات معدنية , قذفها فى كفّه بحذر دون أن يلامس جلده المتّسخ..ألقى نظرةً أخرى خاطفة على الشيخ المسنّ الذى يفترش الأرض, يستند بظهره إلى سور المستشفى العام مرتدياً جلباباً يحمل خرائطَ متداخلة من القَذّر ..

قَبضَ الرجل على العملات المعدنية , وجسده يهتز إلى الأمام وإلى الخلف.." إن الله فى عليائه أعدل من أن يختار لنفسه فريقاً دون فريق .." قائلاً  ..تمرّ إحدى الأسر من أمامه محمّلة بأغطية ثقيلة وأوانى متعددة مع رفع آذان العصر , تخلّفت امرأة شابة متدثرّةً بالأسود عن الجَمع لدي فرشتِه وعرّت إحدى الأوانى ثم قبضت علي "الكشرى" بكفها المغطّى بكيس من البلاستيك وأحكمت إغلاقه بحركة رشيقة فوضعته فى حجره هامسةً " ادعى لمصطفى بن سعدية بالشفا يا حاج" ..نظرت فى عينيه وهى تهمس فارتجفت من الخوف وابتعدت سريعاً .." أحب الشمس"  قالها فى ارتياح ..

التقط الكيس البلاستيكىّ نصف المملوء بالكشرى البارد وبدأ لعابه يسيل عند فكّ العقدة الرشيقة التى صنعتها الفتاة , التهم بيده محتوى الكيس بأكمله .."قبضتُها صغيرة " مبتسماً ثم غفا فى مكانه ..كانت السحب الكثيفة الرمادية قد حجبت أزرقَ السماء, حبلى بالأمطار تنذر بولاداتٍ وشيكة ..الجو يشتد برودةً أجبرت المارة والسيارات على الإسراع فى السير ..يهطل المطر بغزارة ..الجميع يركض ..حاول البعض صَدّ المطر بالجريدة اليومية وأغلق آخرون سُتْراتهم الجلدية وأحكموا أغطيتها حول الرءوس..بعض الصغار يلهوون فى أيدى آبائهم وأمهاتهم بالزى المدرسى .. تضرب الفوضى الشارع وتكوّنت فى دقائق فوق الأرض بِحيرات واسعة من ماء السماء الغزير..

انتبه الشيخ على سَحّ المطر فوق رأسه , الشجر الكثيف تشرّب ما كفاه ومال عليه بالبقية المختلطة بالطين والأوراق والحشرات ونثارٍ من الزهر الذابل ..التحف بالغطاء الصوفىّ الذى كان يفترشه من تحته وقد صار عصرةً من الماء سريعاً ..يصيح : " أنا الله لا إله إلا أنا غير مسوؤل عمّا أفعل والخَلق كلهم مسؤولون.." ..

يزداد التصاقاً بالجدار ويجلس متكوّراً يحدّق فى الأحذية البالية والجديدة والرفيعة والمنبسطة والمنبعجة بألوانٍ بدت له متشابهة ..تهرع إليه قطّة تنفض عنها البلل عدة مرات , يضمها إلى صدره المرتعش متدثراً بفرائها العسلىّ دون جدوى لجلب الدفء ..الأحذية تقلّ شيئاً فشيئاً أمام ناظريه  والأمطار تزداد فوق رأسه ..يصيبه دوارٌ ويغتصب أمعاءَه تقلص عنيف..أفرغ قبضةَ الكشرى الصغيرة إلى جانبه , شعر بشىءٍ من الارتياح ..تموء القطة فى صدره , ضمّها إليه بقوة وبدأ يُسرّح فراءها بأصابعه شبه المتيبّسة ..تلعق أصابعَ يده الأخرى ..بدأ يحدثها :" لا تموئى هكذا ..لا قِبلَ لى بموائك ".. يقذفها خارج ضمّته ..تتشبّث به وتخدش جلده بمخلبها الطويل ..لا يبالى بالجرح ويستسلم لرغبتها فى احتضانه ..

سَكَن المطر ..خرج أحد الحرّاس من داخل المستشفى لا يظهر منه سوى عينيه بكوبٍ من الشاى الساخن ووضعه أمامه ..قفزت الهرة نحو الدفء تحاول مَدّ لسانها بداخل الكوب ..التقط الرجل كوب الشاى من دون النظر إليه فعادت القطة إلى أحضانه من جديد ..بدأ يحتسى الشاى ويقول وكأنه يحدّث شخصاً أمامه : "أحب القطط ولكننى أكره المواء ..كانت هِرّة بريّة غير مستأنسة ..لا قِبل لأحد بترويضها ..تعدو أمامى ورائحة المسك تضوّعها من كل جانب ..كانت ليلى جَنّة ؟! ..السبت من كل أسبوع ..العاشرة صباحاً ..لمدة 15 عاماً لم تتخلّف ليلى عن زيارة المكتبة إلا فيمَ ندر ..أنتظرها بشوقٍ جارف يقتلنى فى غيابها ويحيينى عند رؤياها ..أتلصّص عليها وهى تقرأ وأشتمّ مسكَها يتصاعد من أوراق الكتاب وهى تتصفحه بتمهّل ..قال زملائى عنى أننى مجنونها ..لستُ مجنوناً بل مفتوناً ..اشتهيتُها؟ ..كيف؟ كيف تسألنى مثل هذا السؤال؟ ..كيف أشتهى معبودتى؟ كيف أشتهيها وهذا المسك المقدس يحيط بها ؟ هل ستتزوج أبداً ليلى؟ كيف يستطيع أن ينكح أحدهم قدّيسة؟" ..

حلّ الظلام وبزغت قُمْرة اليوم الثالث فى الشهر العربى ,"الراجل ده هيموت م البرد ..حد يدخلّه المستشفى " يصيح سائس مارّاً به ..يعود رجع الصوت خلف خطوات السائس السريعة .. يردّ الشيخ وبصره شاخصٌ :"أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الشر وقدّرتُهُ فويلٌ لمن خلقت له الشر وأجريتُ الشر على يديه .."..

"ليلى ..حدثتُها ..نعم ..مرات ومرات ..سنوات طويلة ..فى السبت المبارك من رب السموات والأرض  أنتظرها بالكتاب الذى أختاره لها ..زهوٌ يملأ روحى أن أختار لليلى ما تقرأ ..نعيمٌ مقيم وأنا أتناول كتابها من يدها وأتظاهر أننى أعيده إلى مكانه فى المكتبة ..أجلس وأتصفحه علّى أجد خصلةً من شعرها قد علقت بورقة ..قطرة دمع طازجة ..المِسك يَرُدّنى عن الحُلم ثم يردينى .."..

ترتعد فرائصه من شدة الصقيع ..تصطك أسنانه ويجرح شفته ..الهرة صديقته تعود بعد جولة سريعة للبحث عن طعام ..تقفز فى حجره من جديد ..محدثاً الشبح بصوتٍ خفيض متهدّج :" أتدرى؟ لا لم يكن مسكاً .. كثيراً ما نستجير من الرمضاء بالنار ..سمعتُها تموء لإحدى الزميلات :هو عطر الزَّبَاد ..الهرة البرية تتضوع بعطر الهر البرى الحبشى  ..ليتها ما قالت ..وليتنى ما عرفت سرّ الطيب الذى يؤخذ بملعقةٍ من الذهب من بين أفخاذ القط النافر ويُخلط بالزعفران وتُطيّب به أجساد العرائس ..ثم ؟ ..ثم ماذا؟ ..ثم لا ثم .."..

يسير بمحاذاة الجدار شابّان يتضاحكان ,يتحدث أحدهما للآخر قائلاً " يحكى أن أهل قرية شربت من نهر فيه مادة تبعث فى شاربها الجنون, فجنّ أهل القرية كلهم عدا الملك فأخذ أهل القرية يتهامسون "لقد صار الملك مجنوناً وأنه يجب أن يٌخلع فاضطر الملك أخيراً أن يشرب من نهر الجنون كى يبقى عليهم ملكاً" ..

أسند الشيخ رأسه إلى الجدار وقد عاود المطر من جديد ثم همس بصوتٍ متقطّع :" سلبت ليلى منىَ العقلَ ..قلتُ يا ليلى ارحمى القتلى" ..