Tuesday 11 February 2014

وداع

 
 
 
أول إدراكى من الدنيا يا أبى , ساقا معلمتى الممتلئتان تسرى في باطنهما العروق الزرقاء البارزة من أعلى إلى أسفل, خفها الرمادى "الطبى" بحليةٍ معدنية جانبية, جوربها الشفاف الممتد حتى أطراف أصابعها, غطاء الرأس الأسود المطعّم بالخرز,نهداها الكبيران من تحت سترتها الصوفية الملتصقة بجذعها وساعة يدها ذات المينا السوداء وعقاربها الذهبية المتحركة وتخميناتى الدائمة لمعرفة الوقت ولم أكن قد تعلمّت قراءة الساعة بعد..
 
أكثر ما أحببت سنبلة شعر مدرسة اللغة الإنجليزية والخصلات الصفراء المصبوغة بعناية بين ثنيات شعرها الكستنائى, وعيناها الخضراوان وعطرها الفواح وأظافرها الطويلة المطلية..النجوم الذهبية والفضية والأخريات الملونة ودلالاتها : كلٌ يوافق ممتاز وجيد جدا وجيد .علامة "صح" الطويلة بخط يد الأستاذة كاميليا وارتكازها لثوانٍ فوق الورقة قبل إطلاقها , محاولاتى المضنية كى أقلدها بلا جدوى , سحر القلم الأحمر, ذلك القاضى الناضج المقدس والذى لا اعتراض على حكمه, وقار القلم الأحمر وإغراء الروج الأحمر والخوف من الدم الأحمر! زوج الأكمام كحلى اللون, أرتديهما فوق مريولى فى حصة النشاط ..قص ولصق..طبقى السماوى وأول درس تعلمت فيه الأكل بالشوكة والسكين.
 
ابن ناظر المدرسة الذى ابتليتُ به إلى جانبى لسنوات , كانت أدواته غالية ولديه مسطرة من الحديد يهبط بها مدرس الرياضيات فوق أيدينا فحفظنا جدول الضرب –خوفا- من كثرة الضرب, كان متلعثماً ولا يجيد القراءة أو الكتابة , ويوصينى الناظر به خيراً , كم كنتُ أمقته , أمقت أسنانه المدببة الصغيرة وهى تمضغ البيض وينهزم صفاره تحتها ..
 
اشتقت إليك يا أبى , إلى خشخشة مفاتيحك وأنت تفتح باب البيت, كنت أظن أن مفتاحك بمقدوره أن يفتح كل الأبواب , عدت الآن لتسألنى فقط؟ أنا أجيبك على أية حال , نعم يا أبى , تخيلتُ الله ورسمت له صوراً كثيرة من دون أن تدرى, جلستُ فى غرفتى ذات يوم أبكى طويلاً فوق إحدى الصور , كنتُ أشكو إليه غيابك , ودخلت أمى فكتمتُ نشيجى وتظاهرت بالنوم , تعرف أننى جيد بالتخفى .
 
أحلى طعام "الموز الأبيض" كان يشبه الفيلين فى الشكل والملمس , لا أكاد ألمسه حتى يتحطم سريعاً بين أصابعى , فأشعر بالزهو وأحسب نفسى قوياً, حتى ألتهمه فيذوب فى فمى فأخالنى أسعد طفل فى العالم .أطيب رائحة تخص أقراص الفايش الطويلة يمتلىء بها بيت جدتى يوم العيد , صعوبة كسره ثم قضمه , عيدان الخروب وحباته تداعب لسانى قبل لفظها, تورم شفتاى من كثرة تناول الترمس المُملح. لا أثر لتلك الأشياء الآن ولا لبيت جدتى.. لم أعد أعرف هل فقدت حاسة التذوق أم لم يعد هناك طعم لما آكل ؟ الصين هنا تغزو كل شىء يا أبى حتى بطوننا, إننا نخشى أكل اللحوم , لا ندرى ماهيتها , تبدّل سمار أطفالنا بصفرة الصين , تضاءلت كل مواردنا حتى إلى ما بعد رفع الحصار , تضاءل احساسى باللمس أيضاً , لم أعد أفرّق بين اللمسات الحانية والقاسية ..كلٌ بلا هوية على حدٍ سواء ..
 
ذات الوجوه الطاهرة تطاردُنى, وجه حبيبتى الأولى وهى تنظر إلى كاحلها عندما جُرح ثم عندما سمعتها تناقش الأستاذ فى تحدى , وجهُ راهبة دير مارجرجس المشرق عندما انزلق غطاء رأسها وظهر عارياً من الشعر ووجه الشيخ الشعراوى :لم يظهر بعد عالِم مثله يجتمع الناس حوله.. رجال الدين الآن يا أبى صاروا يختبئون منا, يهربون من أسئلتنا, من مطالبتنا بفتاوى تبيح السرقة والزنا وأحيانا القتل , وهل يحتاج الانسان الآن إلى تصريح بارتكاب كل تلك الشرور؟ كل شىء مباح للمتاجرة به فى هذا العالم. أُطلقت شائعات عديدة حول ظهور المسيخ الدجال , مثل نوبات صرع مفاجئة تنتابنا ,نرتاد المساجد ونتأهب للموت ونكثر مما بقى فى صدورنا من القرآن والدعاء فلا نجد مَسخاً ظهر ولا مسيحاً هبط . فى الهند تبدّل الأمر , تزايدت أعداد المسلمين بشكلٍ مفرط, هزمت فتاة عشرينية أعتى زعماء الهندوس هناك عندما اغتصبها أحدهم ثم أمر بقتلها يوم أدلت بشهادتها فى المحكمة, صارت تلك الفتاة رمز الثورة فى الهند.
 
 منذ عشرة أعوام, دمّر نيزك هائل الحجم نصف الولايات المتحدة, شعرنا بالخوف الشديد, وبدأنا نتهيأ لنهاية العالم ثم أصابنا جزع لا يمكن وصفه كلما استحضرنا هذا الحديث "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ", فخرجنا نحتفل فى الشوارع , ثم تعجبنا من أنفسنا : لماذا نفرح ؟ ثم لماذا نحزن إذن ؟ صدقنى يا أبى لم نعد قادرين على التمييز, لقد فعلنا نفس الشىء عندما أبادوا قرية شيعية بأكملها شمال البلاد .
 
يوم زفافى كنتَ غائباً يا أبى , شعرتُ أن سترتى قد قُضت من دبر وأن الناس يشاهدوننى من خلفى , حتى تلك الصفصافة بدت بخصلاتها الطويلة المتدلية مثل نساء طاعنات فى السن يتضاحكن على عريي بأسنانهن الخضراء, ما أن أغلقت باب الحجرة على وعلى زوجتى حتى أخذت أفتّش عن الشِق الطويل الذى يسرى في سترتى, لم أجده وحمدتُ الله على فضيحة لم تتم فى العلن وإن كان قد ملأ روحى صداها..سميتُ أكبر أولادى باسمك حتى تقرّ عيناً فى قبرك .
 
 أمس, رأيتُ حلماً عجيباً, كان جبريل يحتضننى , أجنحته سوداء كبيرة تحيط بجسدى النحيل, كنا فوق الماء أو السماء, ربما فوق شىء بدا كمقلوبٍ أرضى لشىء سماوى, بكيتُ طويلاً ,دموعى ظلت تملأ حولنا حتى أدرك الغرق كل شىء, ونحن نرتفع سوياً لا أدرى إن كنا نبتعد أم نقترب من الأعالى, ارتعدتُ عندما أصابتنى ريحٌ قوية, شعرت بريش جبريل ينتصب ويوخزنى , أبصرت نوراً لا يُدرك كله أبداً بنواظر, ثم سقطتُ إلى أسفل, لا أعرف أسفل ماذا ولكن صار هذا قرارى الأبدى !
 
 هل أتيت لأخذى معك؟ هل هكذا ينتهى كل شىء؟ هل لتلك الآلام دخل بما يحدث الآن ؟ العالم يصغُر يا أبى ويبدو أننى أنسلخ من قشرته لأخرج فى خلقٍ آخر, كل الأشياء تمتزج سوياً , الزمان يذوب فى المكان والحاضر والماضى والمستقبل يتداخلون فيما بينهم ,هل هذا عام 2000 أم عام 2050؟ أنا هنا شيخ أوُلد من رحم أمى لتوى, وهناك طفلٌ أشيب الرأس , وهؤلاء أولادى أبناءٌ لأطفالهم! هذى الأرض تموج بما عليها, زلزالٌ من تحتى , أريد أن أنهض , لا أستطيع يا أبى ..لا أستطيع !