Thursday 22 February 2018

قَص الأثر




أحاول غسل يديّ جيدًا بالصابون، وكالعادة أستخدم "البرْوة" الملقاة على الحَوض البيضاوي فلا تجود برغوتها مهما قلّبتُها في الماء، شعور منتقص بعدم الاكتفاء غير راضٍ البتة يجعلني ألجأ إلى علبة الصابون السائل المثبتة بجوار الحوض، برائحة جوز الهند وبرغوةٍ غزيرة لزِجة لا تبرح الجلد إلا بعد معاناة حك اليدين عدة مرات.. أعتني بالإبهامين اعتناءً خاصًا وأدعك أظافري في كل راحةٍ بالتبادل ولن أنسى الرسغين.. أرى صورتي في مرآة يصرّون على وضعها في غرفةٍ لا يريد من فيها أبدا رؤية أنفسهم.. تقع عيني على اللؤلؤ الذي أتممت ارتداءه على عجل وأنا أهبط السلم قبل مغادرة البيت.. العقد والقِرط والسوار حتى الخاتم.. كل شيء متناغم ومتسق ومتّفَق عليه.. أبتسم في المرآة وأنا أسترجع صورة الرجل الغريب الذي اقتحم محارتي فأفرز لؤلؤاتي.. أسحب المنديل الثاني الملفوف لا الأول المتدلي المتوفر لتجفيف اليد، وسأحرص ألا ألمس سطحًا ملوثًا ولا حتى صنبور المياه عند إغلاقه.. كل شيء ملوث.. أرتدي القفاز المعقم وأستعد لمقاومة شعور قوي بالحَكّة سأعاني منه طوال اليوم بسبب بودرة القفاز الطبي.. حان الآن وقت الابتسامة العريضة النظيفة فوق وجهي..!
كل شيء في مكانه وجاهز للقيام بدوره المنوط به.. المريض في لباسه الأخضر ينتظر.. يحاول أن يستتر تحت الغطاء الأبيض.. تصطك أسنانه رعبًا.. الشابة الجميلة الباكية تريد أن تبقى.. تجبرها الممرضة على الخروج، وبلذةٍ بَدَت بوضوح على وجهها قالت: ممنوع، وأحكمت إغلاق الباب.                                
"لا تقلق سنبدأ بالمخدر الموضعي فلن تشعر بشيء"..
 جملة متكررة أؤديها باحتراف، أنتظر ردة فعل متوقعة تمامًا:
"مخدر للشاه قبل ذبحها؟!"..
كلكم يُظهِر الحكمة في تلك الحجرة.. على السرير ذاته.. من المؤكد كذلك أن جميعكم يرحل عن هنا ثم يعود مرة أخرى أكثر حكمةً.
لا يهم.. سأستمر في الابتسام.. بل وسأضحك على نكتة الشاه.. أتحسس الآن عظمة "القَص" في منتصف صدر الشاب النحيل، حان الآن وقت "قراءة الطالع"!  ولكنى وكما قال الشاعر "أحتاج دمع الأنبياء لكى أرى" ، "قُصي" علينا يا سيدتي من أمرِ الأسمر.. تهبط أناملي درجةً درجة إلى أسفل على جلده البنيّ اللامع، حتى الوصول إلى الجزء المنشود.. النتوء العظمي الملقّب بالرّهابي! من فضل الله أنهم لا يسألون أبدا عن اسمه.. ها هو تحت سبابتي تمامًا.. هنا نبدأ – بعد التعقيم والتخدير - أعمال الحفر والتنقيب..
-"هل اليوم هو الثلاثاء؟" 
سألتُ المريض المرتعش والذي يخفي شحوبَه سمارُه وأنا موقنة من الإجابة.. "أجل.. اليوم هو الثلاثاء".. قالها بسخريةِ من يريد أن يقول: وهل هذا وقته؟ أعرف أنها محاولة خائبة منى لتشتيته.. لكن ماذا عساه يفعل الطبيب أمام كل هذا الهلع؟ أود لو أشرح للشاب المرتعد كيف نجحت نصيحتي لمريض كان يعاني من تضخم البروستاتا.. في الحقيقة لم تكن تلك معاناته.. بل كانت في عدم قدرته على التبول.. علّمتُهُ كيف يلعب "السودوكو" جالساً فى دورة المياه وعندما ازداد التضخم وكان قد حَفِظ كافة نماذج اللعبة، علّمتُهُ "الكاكورو" الأطول والأصعب..من المفيد أن يتعلم الإنسان الصبر ولكنه كذلك فى حاجة إلى تعلُّم عدم الانتظار..                                                           
من الضروري أن يدير وجهه كيلا ينظر إلى سيخ حديد مدبّب ينغرز في عظمِه ولابد من تفقّد مدى حدة السِّن الذي يكفل لي دخولًا سهلًا وخروجًا آمنًا من تلك الفِعلة التي يراها الشاب ذبحًا له، "هل تحب يوم الثلاثاء؟"، جاوب متململًا: "لا.. أكرهه.. أكرهه جدًا"..
"وأنا أيضًا.. منذ أيام المدرسة.. كان أطول أيام الأسبوع.. تسع حصص!".
الدخول في خطٍ مستقيم، يمينًا ويسارًا وبدفعٍ إلى أسفل.. هل هكذا تعمل "برّيمة الحفر"؟ أحاول أن أجد شيئًا مشابهًا بيني وبين مهندس البترول، العريس الأخير.. أعاني ضعفًا مزمنًا في قبضة يدي، لا أقدر على التمسّك بشيء، وهو مرضٌ عضال لا شفاء منه، ولكنه لطيفٌ مع المرضى الذين لا يشعرون بألم من إثر قبضتي الضعيفة تلك، لطيفٌ أيضًا مع البشر الذين لا يشعرون بي..
 قال لي يومًا ما مهزومًا: أنا شخص سيئ الطباع، ويتمسك فقط بكل ما هو داكن وساخن..! منذ ذلك التاريخ -ومن بعده- لا أذكر أنني تمسكت بشيء سوى القهوة..!
أشعر بمعاناة المريض مع الحيرة فلا يستطيع ألا ينظر إلى ما أفعله بجسده، وليس بمقدوره ألا يتخيل كونه – فعليًا - لا يشعر بألم، أعرف جيّدًا ما يدور برأسه وهو يحاول أن يغض الطرف عن السِّن الذي غاب في لحمه والهواجس كافة التي تتعلق باختراق قلبه ونزفه حتى الموت، أشرد أنا أيضًا "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"، في رجلين زعموا أن لكل منهما قلبين، وفي الاعتقاد الجاهلي بأن القلب محل العقل، الآية التي لا علاقة لها بعدم قدرة رجل على حب امرأتين في وقت واحد، وَلكَم هو مريحٌ أن نفسر تلك الآية تفسيرًا خاطئًا..
السن عالقٌ الآن في العظم، مثلما عالقة أنا في الماضي، سأجذبه من داخل الحقنة وامتص النخاع، لا بدَّ من تنبيهه بما سيشعر، انسحابٌ ما، هذا المريض ملهِم، للمرة الأولى أفهم لماذا أعشق مهنتي.. ها هي آهة الانسحاب الأخيرة قبل أن ينتهي كل شيء، وكم أغبطك أيها المريض، فلربما انتهت مأساتك بشفاء أو بموت.. هذا منصف جدًا.. ولكن من أين تأتي تلك الأغنية؟ :"في قلب الليل.. وعزف الصمت مِتْهادِي كموج النيل.. في قلب الليل.. وبرد الخوف بيتكتِك سِنان الخيل".. يريد المريض أن يرد، لن أدعه يفعلها.." وما في حد في الشارع.. سوى مُهرة رباب جازع.. في شجرة سنط.. وأنا والصمت.. وبرد الليل وخوف الليل..".. أرجوك أوقف تلك المعاناة! وانزع عني هذا السكين!
فاضت بعض الدماء من القناة التي صنعتُها في جسد مريضي، سأضغط على الجرح حتى يتوقف الدم، لا تخف، هذا مؤقت، ستنسى كل شيء، هكذا يقولون.. عندما جُرح إصبعي جرحًا قطعيًا نصحني بوضعه في الماء المملح: فقط تحملي الألم وسيندمل الجرح سريعًا.. مريضي العزيز لن أخبرك أبدا بأن الشيء الوحيد الذي لا وجود له هو النسيان!
ضمادة بيضاء.. أغطية بيضاء.. معاطف بيضاء.. ذاكرة بيضاء!
قُم إلى فتاتك وانتظِر نتيجة الفحص..
"أنا أيضًا أكره يوم الثلاثاء بشدة..".. قلتُها له قبل أن يفارق الغرفة فنظر إليّ باسمًا ومتعجبًا: "شكرًا دكتورة رباب مرة أخرى.. لم أشعر بألم"..                        
"هل كان المخدر ذا جدوى قبل الذبح؟"..                                     
ضحك مريضي الأسمر فاتحًا الباب فأضاءت أسنانه البيض وجهه وظِل فتاته ينتصب من خلفه.. يدق هاتفه بالأغنية ذاتها فتغيب عن الحاضر ببطء وهو يغلق باب الغرفة بينما تتشبث الفتاة بذراعه، أخلع القفاز المدمّم وأنظر في المرآة فأجد ما لا أريد رؤياه، وأغسل يديّ بالبروة مرة أخرى، فلا أشعر بالرضا كالمعتاد، تلتصق بي لزوجة جوز الهند وأنا أردد بقية الأغنية في حضرة الغياب الذي لا يغيب: "وكان في جيده قيد جارحه.. وقيد في جيدي ما لمحه.. لكن حاسُّه.. أكيد حاسُّه"...

من مجموعة بيت اللوز/ تصدر بعد أيام.

1 comment: