Wednesday 27 November 2013

الهيبّية ..والمكرميّة ..

أنوى أن أشترىَ لها هديّةً من الفِضّة مطعمةً بالأحجار الكريمة ..كَم يروقُ لها هذا المعدن المصرىّ القديم ..سوارٌ فضىّ فوق لُجين رقبتها..أقل شىء أقدمه لها بعد أسبوعٍ كامل أعارتنى فيه جسدها ..فى الحقيقة لم أكن أحتاج أكثر من ثلاث جلسات ..ولكن ...!
رأيتُها فى أكاديمية الفنون , إحدى إناث "الهِيبّيين" أمامى بثوبٍ فضفاض ,بذلك الحذاء الرفيع الذى يبرز قدميها بشكلٍ مثير ..شعرها منسدل مطيع بلون الكستناء وعيناها الواسعتان اللتان لا يمكن أن يسعهما وجه ولا حتى وجهها ,شعرتُ بأن لهما امتداداً آخر خارج حدود بصرى القاصر.. ياقوتة حمراء مجازاً أسموها شفتين ..مثلث برمودا الذى فُقِدتُ بين إحداثياته: "ما بين كتفيها ..ورأس المثلث عند منبت نهديها " ..
بدافع من الشجاعة اللحظية التى لا تأتى كثيراً طلبتُ منها أن أرسمها ..فَعَلتْ شيئاً عجيباً يطلقون عليه ابتسامة ..إنها "طاقة " من نور فُتحت لنبىّ..ثم قالت : نعم ..ثم استرددتُ بصرى عندما ذَهَبَتْ ..
استقبلتُها وجميع أفكارى تصبُّ فيما هو غير عملىّ أو احترافىّ ..ولكنّها بَدَت ساذجة وبريئة حدّ الدهشة , رغم كل شىء ..رغم صدرها العاجىّ العارى وظهرها المكشوف الذى زيّنت وسطه تلك السلسلة الطويلة المنتهية ب"عقيقة" قانية ..رغم تلك النظرة غير المكترثة بالعالم ..رغم شعورى بأنها تشتهينى ..
جَلَستْ فى مواجهتى بأريحية شديدة وأمسكت بحقيبتها التى صُنعت من قصاصاتِ كلِ الألوان ومن خامات متداخلة من الجلد والستان السميك والكتان , أخرجت بعض الخيوط الرفيعة البلاستيكية الليّنة ثم رفعت عينيها مباغتةً عينيّ تلتهمان أبعادها فقالت :
- " ألن ترسمنى ؟ " ..
- بلى , ولكننى فقط أجهز ألوانى ..
-(وهى تغزل خيوط البلاستيك سوياً تستحضر الخطوة الأولى "تذكرى أن تربطى عقدة مزدوجة") حسناً , لقد رُسمت من قبل ..كثيراً ..لا أدرى ماذا ستضيفه إلىّ تلك المرّة ..
-ربما ..أتمنى ..      
-كيف تريدُنى أن أجلس ؟
-لا بأس بتلك الجِلسة وأكملى فقط ما كنتِ تفعلين .
-سأصنع أسورة صداقة من أجلك..!
هل تتهكّم علىّ تلك الفتاة؟ أى صداقةٍ تلك إن كان قد تملّكنى نزقٌ تجاها جعلها تأتى إلى بيتى كى أرسمها !
-أعرفها جيداً ..كنّا نصنعها فى فترة المراهقة ..ما الذى ذكّركِ بها ؟
-(تضحك) أنتَ لا تعرفنى ..لا تعرف حتى اسمى .."نسرين " .
تأملّتُ سوار زهور النسرين الذى يلتف حول ذراعها وقلت : أريدُ أن أعرف نسرين ..

-(خذى الخيط الأسود واستمرى فى الربط باتجاه الوسَط حول الخيوط البيضاء والحمراء والوردية) لابد إذن أن تزور بيتى ..
-سأزورك بالطبع ولكن أى الأسرار تخبئين فى بيتك؟
-أخبّىء "المكرميّة"..
-أنتِ من سالف العصر والأوان ..! هل مازال يحتفظ أحدهم بالمكرميّة ؟
-لا أقصد تلك فحسب ..كل بيتى مغطّى ومحشوٌ بعُقَد المكرمية ..أدمنتُها صنعاً وتحديقاً..حتى ملابسى لابد وأن أقحم فيها غرزى المفضّلة .
معقدة إذن ..حظى عسر ..ولكنها سَتَلين مثل خيوطها تلك..يكفى أن تلمِح إلى زيارتها فى بيتها..سأحل عُقد مكرمياتك واحدة تلو الأخرى ..
-ممممم.. وما السر ؟

-(كررى الخطوتين الأولى والثانية ,واربطى الخيط الأسود من اليسار إلى اليمين ثم اربطى من اليمين إلى اليسار) ..ربما كانت جدتى هى السبب ..امتلأ بيتها الأنيق بالمكرميات ولطالما راقبتُ أناملها وقت النسج واشترت منى أولى قِطَعِى وعلّقَتْها فى ركنٍ بارز لديها فى صالة الاستقبال بجوار الشرفة.. كانت تتدلّى وتحمل نباتها المتسلق الزاحف إلى أعلى  وبات جدى يقف فى الركن ذاته بعد وفاتها مرتكناً إليها..
 كنتُ أراقبه من الشرفة المقابلة ..لم يكن من الضرورى أن أسمع جلبةً للموت بداخله لأدرك أنه حزين  ..لم تختلف النافذة كثيراً ..مازالت الستائر المخملية الثقيلة بلون دم الغزال تهتز بعنف من خلف الزجاج الأبيض السميك إذ ينساه جدى مفتوحاً ..وقتها كان يظهر وجهها عندما تغلقها ويتلاعب الزجاج المخرفش بملامحها فيزيدها تقضيباً ..ظَل الضوء الخافت المنبعث من الداخل إلى الشرفة يشكل مع ظلال البوتس المتسلق  أغنية ليلية باكية ..وتلك الأغصان الممتدّة من شجرة التوت فى الأسفل مازالت تحتوى الشرفة بين أوراقها ,لايزال الشارع هادئاً إلا من صخب ثلة الشباب المتسكع على الأرصفة ..وجدى على حاله يدخّن فى الخفاء كى لا يضايقها.
-سأقول لكِ شيئاً متكرراً ..أنتِ جميلة ..
-أعرف ..ولكن –على أية حال- فى الإعادة إفادة ..
-تشبهين الأندلسيات ..اللاتى خلبن لبَّ العرب ..
-لو كنتُ فى الأندلس لأحببتُ أن أصير نساجاً "صاحب طراز" ..
-لو كنتُ فى الأندلس لاخترتُ مهنة شريفة كالكتابة أو الطرب ..
-تحب اللهو ..
-بالطبع ..وفى مصر ؟
-كنتُ سأقف على دولاب الخليفة , أعطّر ملابسه بالياسمين ..والنسرين ..
-كنتِ ستصيرين سلطانة ..لا ريب .
-بل كنتُ سأجلس أواسى النسّاج الذى أهداه عقله إلى عقد المكرمية ..
-المكرمية مرةً أخرى ! ولماذا تواسيه ؟
-(منهمكةً فى الغزل )بالطبع كان خائفاً من قدوم "المَغول" ..بل كان يرتعد ..أرى وجهه فى كل عقدة أغزلها ..يقتله انتظار الموت الوشيك ..يئتنس بصحبة خيوطه المجدولة السميكة ..يزخرفها بآماله وخيباته ..
-أتراكِ أيضاً تحبين البحّارة  لأنهم "يعقدون" المكرمية؟
-أحب ذلك البحّار المحموم الذى يهذى باسم حبيبته فى قلب السفينة .. ..وأعشق القراصنة الشرفاء ..
-وهل أبداً هناك قراصنة شرفاء ؟
-نعم ..قراصنة المورسكيين ..


-ملابس "الهيبّيين" التى ترتديها لا تتناسب مع تقديرك للمورسكيين ..
-على أية حال أنا هيبّية المظهر أندلسية الهوى ..
(أعيدى الخطوات من 1 إلى 3, ابدأى دائما بالخيطين على الطرف واحبُكى نحو الوسط ,استمرى على هذا النحو ستحصلين فى النهاية على هذا الشكل )  ألن ترسمنى ؟!
-(مبتسماً) بلى , مازالتُ أجهّز ألوانى ..!

Sunday 17 November 2013

بسكاليا



"بسكاليا " راجح داوود تصاحب جمالية المطر , السحابات قد كشفن وجوههن الرمادية مع مَد الأرغن ..آلة الموت والحياة ..غيمات بيضاء تتصدّر بعض الأفواج مع دخول الكمان الحانى جاذب الدمع..العود يعانق زرقةُ السماء التى تحتضنُ فوضى الشوارع المكتظة بالسيارات والمغرَقة بالماء وضجيجَ الطلاب فى الفصول وهم يتسابقون على النوافذ لملامسة قطرات الهدية الربّانية..الموسيقى تتزامن مع غبار الأسطح المهملة الذى  ينعجن تحت وطأة الماء فأتذكر حارات "الكيت كات " الضيقة وزينة "رمضان" الورقية القديمة غير المكتملة  توصِل البنايات ببعضها البعض , لايزال العود يدق على قلبى وفتيات يغطين رءوسهن بيد وبالأخرى يرفعن ملابسهن إلى أعلى فى حَرَجٍ باسمٍ خشية البلل , وشاب يراهن صديقه على تخطّى بركة الماء الواسعة فى قفزة واحدة , وشاب آخر يرتدى ملابس صيفية يفرد ذراعيه ويسير منتشياً دون التفات إلى السيارات ..عتّالٌ جالس تحت شجرة  "عصا الذهب" بزهرها الأصفر المبهج بجوارعربة يد تحمل مَوزاً دون صاحبها ..غنائية المطر تكسو الأشجار فتبعثها خلقاً جديداً يتنفّس بعمق ..يزهو بأزهاره وأوراقه النظيفة مع عزف الآلات جميعها سويًّا..
مع "بسكاليا", تتعلق عينى ببصيص دقيق من ضوء الشمس انفلت من الغيم , بسائس يمسح السيارة الفارهة وقد ثبّت عينيه على نقود صاحب السيارة فى الحافظة , بطفلةٍ ضاحكة تدور حول نفسها دورةً كاملة أمام والدتها فينتفخ ردائها مرتكزةً على حذاء متسخ  ..أرى نفسى مثل "الشيخ حسنى" معلّقةً بتنورةِ درويش يدور بى وبشبكةِ صيد لامعة بصيدٍ ثمين ..بمكحلة "رأفة" كما وصفها "أصلان" :مدورة من زجاج داخل مخدة صغيرة مكسوة بالساتان الوردى الباهت ومشغولة بالخرز الدقيق ،لها فوهة ،وسدادة مثل حلمة طرية ،معقودة بخيط من حرير ، مع مرود نحيل من العاج..
يطاردنى ما قاله لى ذات مرّة : "إذا أردتِ نجاةً وقت الإعصار , احرصى على مكانٍ فى مركزه" ..كانت نظرته حادة ولهجته قاطعة ..يحدثنى أنا فحسب رغم الحضور القليل المحيط ..يطأطىء رأسه قليلاً رافعاً بصره إلىّ من تحت نظارته الطبية ..تعلّق قلبى بالكلمات ..بثّت فى روحى جسارةً لحظية ..تمنيتُ لو يأتى إعصارٌ الآن كى يشاهد شجاعتى وأنا أسبح إلى منتصفه  هنا ..فى الغرفة المُبَطّنة المعزولة عن صخب العالم حيث يتصاعد دخانه الخانق ليداعب آلات التحكم و"أُورْجَه" ذا الطابقين فى الاستديو ..لأكسر حواجز الخوف والترقّب بداخلى ..لأستمع إلى عزفِه لى وحدى عندما يذهب الجميع إلى الراحة وأرغفة "مؤمن" الطويلة المحشوة بالشاورمة ..
 أؤثر حُجرته الباردة الدافئة على كل شىء بعد الغناء ..لا أدق باباً ولا أتفوه بكلمة ..فقط أدخل على استحياء فيلتفت تلقائياً بكرسيه الدوّار من فوق أزرار التحكم  إلى "الأورج " ويتحول من مهندس الصوت إلى العازف الخاص لى ..اللحن ذاته .."بسكاليا" ..كنتُ أستمع وكأنى أشرب من ماء عينٍ لا رِى منه ..أبتسم ثم أدمُع ثم أغطى وجهى ويهبط شعرى معى إلى أسفل ..أميل بجسدى إلى الأمام لأجلس شاخصةَ البصر ..أحدّق فى الموكت الثقيل ولا أجد بُدًّا من سؤال يعصف بى : هل هذا حقيقى؟ ...أنظر إلى أصابعه الممتلئة البيضاء وجبهته الزاحفة حتى منتصف رأسه ..تنزلق دمعة لا يقاومها ..يتركها لتهبط ..يبتسم لى فأبادله ابتسامةً رائقة ..أكتشف أنه ليس سوى زجاج مثل ذلك الذى فى مواجهتنا تماما ..زجاج صديقى كان ملوناً مثل باب بيته الذى صنعه بيده قطعةً قطعة..وكنت أنا فى نظره "بينلوبى" التى نَحَتَها على بوابة الاستديو , تعزف التشيلو بدلاً من أن تغزل ثوب العُرس ..!

Saturday 16 November 2013

حشيشة الملاك

 
 



 
يومٌ آخر فى البورصة يمر ..
(- واحد ) من تلك الأيام التى "لها إبطاء المدلِ المنعم وتجنى القادر المحتكم" ..يا إلهى الرحيم ! لماذا اليوم تحديدا تأتيننى وفى ذلك المكان الدنِس ليصرعنى القنوط ذاته من الوصول إليكِ مجدّدا ؟ .."جددت حبك ليه؟" ..
آه يا نورا من يومٍ هبطتِ فيه على منزل عمّى وزوجته ..أربعة عشر ربيعاً من الزهر الندىّ تُساقِط دفعةً واحدة على وجهى الأسمر وقلبى الأخضر ..بأى قَدَرٍ باسمٍ تشاجر معى أبى ودفعنى إلى الفرار إلى بيت عمّى فى شارع بيروت لأراكِ؟ مراهقٌ يكتب الشعر الركيك ويعشق الموسيقى ,طرده والدُهُ فى ليلةٍ من ليالى الشتاء المقمرة ليلاقىَ وجهاً سيطارده طيلة حياته ! لعنةُ الرحمة التى نتلقاها بخشوعٍ كامل..ورضا بقضاءٍ قاهِر وبدعاء: اللهم لا ترد كذلك قضاء ولا حول ولا قوة إلا بالله أمامه ..!
لا تحسبى أنى لازالتُ أصلّى يا نورا ..كنتُ أصلى فى حجرة ابن عمى وصرتِ أمامى ..قِبلتى ..بينى وبينك الممر الطويل الفاصل بين صالة الاستقبال والغرف الكثيرة ..لم يكن ممرا يا نورا ..كان واحةً من الجنة وكنتِ حوراءَ عابد ..دمعةٌ رقراقة كنتُ على وشك التعافى منها عندما فرغتُ من سجودى لأبدأ الركعة الجديدة ..تعطّل لسانى عندما أبصرتُك فى مواجهتى ولم أعد أنظر إلى وجه الله الكريم .."اغفر لى يارب" ..كنتُ خاشعاً لأننى مكروبٌ ..ثم نظرتِ إلىّ ..هكذا دق قلبى دقاً عنيفاً ودفق الدم إلى وجهى فشعرتُ بحمى مفاجأة ..كانت الثوانى ممتدة وأطول من قيمتها الحقيقية ..الأمر أشبه بخِدر الحشيشة, احساس الزمن المتباطىء اللذيذ الذى عرفتُهُ مبتدئاً فيما بعد مختلطاً بحشيشة الملاك ..لا مُعادِل لكِ سوى هذا العطر.. تكلمتِ ثم تضاحكتِ مع زوجة عمى وابنتها فسمعتهما يناديانك :"نورا" .."يا وردة نادية ف بنورة "..أنتِ هى تماماً "يا أميرة على النوّار..." فختمتُ الصلاة ولا أذكر كيف ..
واربتُ باب الحجرة لأراقبكِ من بعيد وسمعتُ حديثا هامساً عنى ..عن ابن العم المسكين المطرود..انتبانى غضب مِن كل مَن قص عليكِ حكايتى ..وقررتُ فى لحظة شجاعة أن أخرج إليكن..اندفعتُ منجذباً إلى يدك الصغيرة وسلّمتِ فى ارتباك .."الكُولُون الابيض التريكو ..الحذاء الأبيض المطعّم بالورود الحمراء ..تنورتك القصيرة جدا والتى لم تكشف عن ساقيك النحيلتين الملفوفتين فى الكولون للأسف .. القميص الأحمر المغطّى بِدِبَبَة تلهو بالكُرات فوق صدرك الناتىء كبرعمين ..وجهك الذى يشبه وجوه القديسات فى الأيقونات بنَمَشٍ نُقش كالوشم فى قلبى .. و"فريد" مازال يغنى لكِ فى أذنى "يا حلو ياللى الهوى هفهف على توبك ...أغير عليك مِ الهوى وأحسد عليك توبك...مجروح ومالك دوا يا قلبى مكتوبك ...".
وقفتِ حاضنةً حافظة الكتب الكرتونية المرسوم عليها "سنو وايت والأقزام السبعة"ومشيتِ فى خجلٍ واضح باتجاه المائدة لانتظار مدرس اللغة الفرنسية فرأيتُ شعرك الأصفر الطويل يلامس أسفل ظهرك مربوطاً بشرائط حمراء وبيضاء..كيف لازالت أتذكر كل هذه التفاصيل ؟ لازال هناك خلايا حية فى مخى إذن ! ..ارتميتُ بقامتى الطويلة فوق المقعد أتعافى من رائحة "الشامبو" المنبعث من شعرك ..سألتُك بلا وعى "أى شامبو تستخدمين؟" نظرتِ فى غرور وقلتِ : "هو ليس من هنا ..من تركيا..باللبن والعسل.. "...شعرت بالذل لأننى لا صلةَ لى بالطيران ولا بالأسفار..مناديل مصر للطيران المغلفة المبللة التى كنتُ أجدها مع زملائى فى المدرسة هى كل ما تلقيتُ من الطائرة ..وصل المدرس كهادم اللذات ثم هجم على المائدة وظهرتِ بصحبة ابنة عمى بجانبه كزوج من الفراريخ الصغيرة..قادتنى زوجة عمى إلى الحجرة ذاتها ثانيةً :"استذكر دروسك..سأصنع لك بعض الساندوتشات " .
التحفتُ بالكوفية الصوفية وأغلقت الباب ثم جلستُ على الأرضية الفارغة من السجاد على"الباركيه" ملاصقاً للباب ,أقتفى أثر كلماتك بالفرنسية الرنانة التى لم أتعلم منها شيئا يذكر منذ دخلت الثانوى العام ..ضحكاتك ..صمتك ..خطوات زوجة عمى قادمة ..هرعتُ إلى المكتب وتصفحت الكتاب .."ساندوتشات جبن بالطماطم..أعرف أنك تحبها " وانصرفت ..حدقت فى الساندوتشات ..فى الجبن الأبيض وقطع الطماطم الحمراء ..لونيكِ ..التهمت الساندوتشات واحداً تلو الآخر ..كنتُ جائعاً..وجوعى إليكِ يا نورا كان هو الأشد على الدوام ..تناولتُ كراسة خواطرى وكتبتُ إليكِ خطاباً "وش وظهر" ..قلتِ لى مرة أن خطى جميل ..
عاد ابن عمى من التمرين فاقترضتُ منه الووكمان الذى نسيتُه فى غمرةِ حنقى على أبى ,ووضعت شريط "قارئة الفنجان" والسماعات فى أذنى حتى النوم ..
فى الليل حلمتُ بكِ تسبحين فى نهرٍ من اللبن والعسل ..وعطر الشامبو ذاته يملأ أنفى فى الحلم ..!
لماذا استيقظت؟
أتراكِ تعلمين أنه الحلم الأجمل فى عمرى وأنكِ أبهى ما فى عمرى؟ ..دسستُ خطابى فى إحدى كتبك بعدها بأيام وتطلّعتُ بشوقٍ إلى كلمةٍ منكِ ..لم تأتِ بل أتى أبى ليأخذنى وعدتُ إلى بيتى كمن دفنوه حيًّا ..
تعمّدتُ الزيارات المفاجِئَة غير المرتقبة لبيت عمى علّى أراكِ ..أسأل عنكِ بحذرِ فتى لا يخفى اهتمامه بكِ عمن حوله ..توالت أحلامى بكِ ..تحوّلتُ إلى الهوس ..بدأتُ أفكّر فى جدوى الحياة من دون رؤياكِ ..هل أنتحر؟ ..وحاولتُ الانتحار يا نورا ولكن كان هذا بعدما عانيتُ أعراضى الانسحابية من مخدرى الأبيض ولم أجد مالاً لأشترى الجرعة..كنتِ أكثر حناناً فى هجرانك من بودرتى البيضاء ..كتبتُ شعرى الركيك ..ونثراً طويلاً فى ولعى بكِ ..أستمع إلى أندلسيات فيروز "يا شقيق الروح من جسدى" ..قلبى يذوب ..لم أكن شيئا يذكر فى يوم من الأيام ..ذلك الأسمر الذى يحيا فى الظلال صامتاً ..
حتى جاء يوم عيد ميلاد ابنة عمى فى العام التالى أحببتُها فقط فى ذلك اليوم ..كنت مدعواً مع أسرتى وكنتِ مدعوة مع أسرتِك..وتلاقت عينانا ..رُدّت إلىّ روحى ..ارتديتُ بدلة سوداء واقترضتُ عطر أبى الفواح وملأنى الزهو بقامتى الطويلة وعينيّ الزيتونيتين,وكنتِ ترتدين تنورة سوداء واسعة تظهر ركبتيك البيضاوتين و"جيليه" مطرز بالوردى والبنفسجىّ ومن تحته قميص أبيض من القطن بياقة مستديرة صغيرة ..الجمال كلمة مختزلة لما كنتِ عليه فى ذات اليوم .."اسمك على رسمك لايق ...سبحان من ابدع رسمك ...يا ندى الصبح للرايق ...اسم الله يا نورا على اسمك ... يا ليالى العيد ...من غير مواعيد...أبو حظ سعيد ...اللى تحن عليه نورا" ..! كبرت شجرة نورا عاماً كاملاً , وصار البرعمان ثمرتين ..متى تُذلل قطوفها لى تذليلا؟ لم تكن الكراسى كثيرة فى الشرفة ..أحضرت لى ولكِ فقط كرسيين وقدّمت لكِ كرسيكِ على طريقة اتيكيت الأفلام حتى ارتكن كتفاك على أصابعى وأنتِ تجلسين ..ارتعش جسدى وجلستُ فى مواجهتك ,أراكِ على الضوء الخافت الهامس..وسألتُك وسط صخب الأصوات والتصفيق :هل قرأتِ خطابى؟ قلتِ فى تردد :نعم ..قلتُ وما رأيك؟ قلتِ: خطك جميل..ولكن لا تكررها ..قلتُ : أريد أن أتزوجك ..ضحكتِ ثم ضحكتِ ..لم أكن أمتلك طاقة للغضب منكِ ..
رحتُ أطاردك فى طريق عودتك من مدرستك , أبداً لم تكونى وحدك ..دائما يحطن بك الرفيقات ..تظهر من خلف رابطة عنقك وزرار قميصك الأول المفكوك تلك الفراشة الذهبية التى لا تخلعينها..يكفى أن أراكِ ..وأن تعرفى أننى آتي لرؤيتك فحسب ..تبسمكِ فى وجهى كان هو النعيم..فى كل مرة أكتب إليكِ خطابا ولا أستطيع أن أعطيَكِ إياه ..ضنت على الدنيا بفرحة..


ثم نسيتُك يا نورا..ونسيتُ أن أتزوج ..لم أكن فى حاجة إلى زواج منذ تخرجتُ وتقدمتُ لطلب يدك ورفضنى والدك دون إبداء أسباب ودون مراجعة ..نسيتُك يوم علمتُ بيوم زفافك ووقفتُ على الكوبرى بين ضفتيّ النيل أستمع لتلك الأغنية "ستكون ليلة طويلة" ..يومَ سافرتِ لبلدٍ بعيد ولم تعودى ..لم تكونى تنتمين إلى الطين الذى تطأه أقدامنا ..كنورٍ خطف أبصارنا وبرق فى سمائنا ثم اختفى وترك لنا ظلاماً سرمديًّا..
 
ومثل الجميع , سارت الحياة بى ..فقط تركتُها تسير بى ولم أختر شيئاً .. أبعدتنى عنكِ فابتعدتُ ..ساقتنى لعجلة البورصة فدُرت.. أدخلتنى عالم المخدرات فهرعت.. لم أقاوم ولم أسبح ضد أقدارى واستسلمتُ لنشوتى بين أحضان بودرتى ونسائى ..لماذا اليوم أتذكّرك؟


 
" جذب نفساً عميقاً ممتزجاً ببودرة بيضاء منثورة على منبت إبهامه ثم تنهد طويلاً ,وكان قد بدأ يرى خيالات لامرأة تسبح عاريةً أمامه فى نهر من اللبن والعسل ..".
 

Monday 11 November 2013

أطوار الروح

 
 
لروحى التى لا أعرف عنها شيئاً تقويماتٌ زمنية عديدة ..شيطانى الأكبر يقذفنى عند مُدخلها ..والأصغر ينزلق ويسرى منى مسرى الدم ..أشعر بالدنس ودبيب خطاهما الواثق يتنامى إلى مسامعى ولا أعرف كيف أُسكِته ..برودة الجليد تكسو حواسى كلما همس لى هاتفٌ يستغيث : "قومى إلى صلاة" ..
فى لحظةٍ زمنية ٍ موازية يتبعها مكانٌ آخر فى روحى نفحةٌ من ربى تتغشّانى فتطيّب دواخلى بحنوطٍ من الجنة ,أغيب فى كمالها الذى ينسينى نقصانى ..لذةٌ طاغية تدغدغ روحى ..أشتاقُها شوقَ الطلب من بعد الغيبة وشوق التجلّى الكامل لمَن أقرضته وجهاً من وجوهها الحِسان ..!
ورجفةُ محموم ينازع الموت , تُكلّمُه النازعاتُ غرقاً ويفزع من كل ظلمةٍ لأنه يحسبها القبر..
ونشاط المجذوب الذى لا يكلّ ذهاباً أو إيابا أو حديثاً أو صمتاً ..
وتلك اللحظة التى تخنقنى كعرقٍ مسموم بيأس فوق جسد مصلوب :" لا فائدة من تلك التعاليم..مِن كل قيدٍ ومن كل لذةٍ ومن كل فكرة .."..
شىءٌ ما يجذبنى من دون إرادة إلى عالم المعرفة ..ثم أخلُص إلى أن كل معرفة لذة روحية لا تفضِى إلى يقين ولا راحة ..كل الأشياء منتقَصة ..قاصرة ومشوّهة لأنها تتّكىء على نقصانى البشرى فيشتد حزنى ..
روحٌ ..روحٌ ..روح ..سئمتُ تلك الكلمة ..مللتُها ومللتُ ترديدها دون فهم ..قرأت ذات مرة : نصف السرّ فى المفتاح ونصفه الآخر فى البوابة ..وكنتُ فقط مجرد خطوة قبل الولوج ..لا مفتاحَ معى ولا بوابةً أبصر ..دائما هكذا ..قريبة وبعيدة ..أوشكُ أن أعرف كل شىء فيُسلب منى على غِرّة وكأنى لم أكن شيئا ..قمرٌ يضىء قلبى فأُبصر وأوشك على البوح بما أبصرتُ فتأتى سحابة قاتمة حبلى بالعجز تمتصّ نوره وتحيله إلى حَجَر أصمّ..
أخشى أن أزهد زهدَ المستكفى المَلول ..وأن أزهد زهدَ المعدوم العاجز ..خُلِقتُ من شهوةٍ وحكمة ..تارةً نور وتارةً نار .. ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ )..تلك هى القداسة التى أحنت الملائكة ساجدين أمام آدم .. الملائكة أو "المآلكة" كما أسماهم المعرّى ,مِن "الألوكة" وهى الرسالة ,العقول المجردة والأنوار الصّرفة والحكمة التى لا يشوبها هوى ..فلا يصدر منهم سوى التسبيح والتحميد والتقديس لله جلّ وعلا  ..لا غضب ولا شهوة فيهم ..منهم حملة العرش ومنهم مَلائكة الأجرام والكواكب والأقمار والجبال والهواء والأرض والرعد ..السابحات السابقات المدبّرات أمراً ...! هل أمر الرب القدير ملك الموت ليجلب مِن كل تربةٍ فى الارض كى يخلق منها آدم؟ هل كان ذلك صحيحاً؟ هل فقط تتوق أنفسنا إلى ما هو منّا ومنه؟ ..
تجلدنى نفسى على كل تلذذٍ عن احتياج ,وتحتقر ضعفى ..ولا تقومُ سعادة البشر إلا بقوة الإحتياج ..فأسبح فى بواطن الملذات عَلّى أجد ما يُطلَب لذاتِه لا لِما يدفعُهُ من آلام بحدوثه , أتغزّل فى الطعومات والروائح وأخلطُها بنكهة أحلامى وأرفعها من عالم الحسّ إلى الخيال فألوّنها بشخوصى الكثيرة وعوالمى السحرية  ..
أستقى روعة الحب وأحاول أن أفسّر ما لا يُفسّر بين قائلٍ "العشق دخان يصعد إلى دماغ الانسان يزيله الجماع , وبين ما سأله عمر بن الخطاب لعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما :  "الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا"  فقال على "نعم.. سمعت رسول الله يقول إن الأرواح جنود مجندة تلتقى في الهواء فتشأم فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"..
إذن هى الروح مجدداً .الخلق الآخر الذى بدأ ولا آخر له ..تقول الحكمة لى أحياناً : روحُك أسمى من الحياة لأنها خالدة, وحتى أكثر الأرواح خَبَثاً أخلدُ من الدنيا ..لذا هى الكفء للآخرة التى لا آخر لها مثلها, كما قال الرازى ..هل رأيتِ أنها لا تزن جناح بعوضة؟!
أعلم .. أنه علىّ تطهيرها وتزكيتها وأن الأصل فيها أنها مُلهمَة من الله فجورها وتقواها ..الحزن الذى يسكنها أبداً ..والسعادة الزائلة فِيها قبل إنقضائها .. ما السر فى الروح الحزينة ؟ المثقوبة بالفقر والحرمان والفَقد وطول الأمل فيما لا يُدركُ؟! فيمَ نياحتك يا داوود يا نبى الله وطول بكاءك يا أعذب الأصوات إلا من خشية وشوق وعشق للمحبوب؟ أنتَ يا مَن وهبك آدم أربعين عاماً من عمره عندما رآك نسمةً من بين ذريته.. ثم نسىَ .. لما مات محمد بن سيرين حزن عليه بعض أصحابه حزناً شديداً, فرآه فى المنام فى حالٍ حسنة فقال : يا أخى قد أراك فى حالٍ يسرنى فما صنع "الحسن" (من أصحابه) ؟ قال رُفع فوقى بسبعين درجة , قلتُ ولمَ ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه ؟ قال ذاك بطول حزنه ..وحبيب الله محمد صل الله عليه وسلم يصفونه فيقولون :كان متواصل الأحزان ..
أصبحَ فؤادى فارغاً إلا من بئرٍ عميقٍ فى روحى , يُفضى إلى مرآةٍ أرى فيها نفسى تارةً فى عِليين , تحت شجرة "طوبى", وشجرة النبق "سِدرة" وعلى السندس الأخضر وبين حور العين وتارةً فى سجّين فى أسفل سافلين محفوفةً بكل ما أحببت ..
ويزيّن لى الكِبر أحياناً أننى أحدسُ وأفرسُ وأقرأ ما بين السطور فيحضر ابن عربى من موته ويهمس لى قاطعاً : "خرْق العادة إن لم يُصبح عادة, لا يعول عليه"..فأشعر بالضآلة من جديد وأقول مستسلمة :"فليكن , الوجود أشرف من العدم"..
 

Wednesday 6 November 2013

حضرة المحترم قلبى



حضرة المحترم قلبى ..

لا تتأتى لى فرصة أبداً كى أرسل إليك, وأعترف بتقصيرى الشديد فى حقّك..أقرّ أيضاً أننى شديدة الجحود معك ..أنت.. مَن يرسل إلىّ دمائى لأحيا وأتنفس ,لن أقول كل لحظة بل  سأقول كل “ لا زمَن” ..
أعلم أنك تفضّل العزلة , ولا تحدث صخباً كبيراً عندما تعمل من أجلى , ولكننى أطمئن علي نبضك من دون علمِك من وقتٍ لآخر ..أنا أفتقدك طوال الوقت برغم أننا معاً بشكلٍ دائم ..برغم أنك تطّلع على كل ما أشعر وما أفكّر ..أتمنى فقط لو أدرك سرّك ..
أتذكُر عندما همست لى وأنا أكتحل  : "مفيدةٌ قطراتُ الدمعِ الصباحية .. تذوب فى الكُحل, فتجعل المِرْوَد أسهل جرياناً على الجفنين..وتغتسلُ بها أحلامُ البارحةِ المستحيلة .." ..أعشق همسك لى مهما آلمنى وصفعنى بكشفه لحقيقتى ..بل وأكتب ما تمليه علىّ بأمانة شديدة, لغتك معقدة ومركبة وصاخبة فى كثير من الأحيان ولكنك رءوف فتتحدث على مهلٍ ولا تشرع فى جملةٍ جديدة إلا عندما يذوب رجع صوتك..
تدرى أننى أحب حافظ الشيرازى ..تعلم أيضاً أننى شرعت فى تعلّم الفارسية كى أقرأ له , أتذكر عندما قال :" يارب فى عُش مَن؟! هذه الشمعة التى تنير القلوب ؟!" ..سمعتُ بكاءك وكأنك كنتَ تجالسٌه مع ندمائه وتشاهد حيرةَ دموعه..خُيّل إلى أنك قد قفزت عالياً عندما سمعته يقول " من لم يزرع بذور العشق وأراد الوصال كمن عقد النية على الإحرام بكعبة القلب بغير وضوء واغتسال "..
أخشى عليك يا قلبُ ..من أمراض القلوب ومن مرضى القلوب ..لا تشح بوجهك عنى واستمع إلى ..أدينُ لك بالفضل لرهافة الحس ورقة الطباع ..ولكن تذكّر أن العشق شيطان يخمّر طينة آدم ..وأنت الأقرب إلي قطعة الطينِ الشريفة تلك مِنى ..لوثَنِى الألم وعكّر مائى..ولكن أنت النقىّ البرىء ..أنت مَن تحمل فيك السرّ وليداً وكهلاً ..
كنّا صديقين ولازالنا ..ولكنّك فى الماضى كنت فتيًّا , يملاؤك الحماس , تعشق بجنون وتقضى ليالٍ طويلة تئن كالطفل بين ضلوعى ثم تُصبح من الحمّى معافى متعرقاً بالشفاء ..صرتَ الآن ناضجاً جداً فصار حزنك أعمق وأشد وضلالك القديم كما هو ..هوسك بالصوفية وطربك للقرآن ونقشك لاسم النبىّ كلما خلوتَ إلى نفسى تحدثها..راخمانينوف وفيفالدى وشوبان وعبد الوهاب رفقاء شجرة سنط السمر التى نجلس تحتها فى كل الأماسى ..

أرجوكَ أن تكره قليلاً , واعلن كراهيتك ولا تقتلنى مبكراً بهدوء القبور الذى تمرّن نفسك عليه كل يوم ..أريد أن نُكمِل المشوار سوياً دون وقوع أحدِنا من الآخر..ألا تريد ذلك؟

  (المخلصة لك...)




Sunday 3 November 2013

نظرة يا متولى

                                

فُتِح لى الباب المتهالك وكانت جارتى القديمة قد ودّعت زوجها الوداع الأخير وجلست فى بيتها لتتلقى فيه العزاء, بدا وجهها هادئا رغم احمرار عينيها تكسوه تلك الابتسامة التى تنفلت ولا تدرى من أي منبعٍ رقراق طَفَت وسط صحراء الحزن تلك, الحزن يبدو أحجيةً يستعصى علينا فك طلاسمها , وجه المرأة كان يشعّ وكأنه قد كشف تلك الطلاسم ثم ابتسم ابتسامة العارف..
لم أجد ما يُقال طيلة فترة العزاء والشيخ مصطفى إسماعيل يرتّل القرآن ترتيلاً , أما تلك الدموع التى تستحضرها أغلب النساء المتّشحات بالسواد  دفعتنى إلى الشعور بالخجل ,إظهار الأسى وبذل البكاء والحديث عن حَسَنات المتوفى وما قدّم للأيتام والمحتاجين وحسن معاملته لأهله وأقاربه ومعارفه أحاطت بى من كل جانب ولم أستطع المشاركة فى أي منها .تأملت صورته المعلقة على الجدار المواجه فوجدتُه باش الوجه كما عهدتُه وأنا صغيرة وعلامة الصلاة تعلو جبهته , مرّ وقت طويل قبل أن أدخل بيت جارتنا وزوجها المتوفى ,أنا -ابنة الدرب الأحمر- وتشاء الأقدار كى أعود اليوم من سفرى الطويل لأجدها فى حالة حداد .

أظهرت عند استقبالى ترحيباً كبيراً -رغم حالِها-أصدقَ من ترحيب القريبات المزغردات اللاتى قد زاغت أبصارهن على غرفة نومى لمشاهدة الهدايا المخبأة فى حقائبى . بمجرد عبورى عتبة البيت وجدت فى مواجهتى تلك الأريكة "البَلَدى " ولا يبدو أنها حتى قد زُحزحت من مكانها , تكسوها المفارش البيضاء ..كنتُ اضطر إلى القفز إليها كى أجلس لعلوّها , أعود  بظهرى إلى الخلف  فى حركة تمثيلية لأستند إلى الوسادة القطنية العريضة, ثم أستدير لأشاهد من النافذة الخشبية الطويلة  سبيل َ"رقية دودو" وضوء الشمس قد سُكب فوقه , وضجة الشارع ومناداة الباعة ودقدقة النحّاسين فى شارع سوق السلاح  فى آذانى ,وتلك المنضدة الطويلة كما هى, اكتمل تآكل أطرافها حول دورانها ليتعرّى خشبها والقشرة الزرقاء المنقوشة المُلصَقة عليها التى كانت تعجبنى مُسح جانب كبير منها .

 كان الزوج يستقبلنى بأقراص النعناع البيضاء فى غلافها الأخضر لآخذ قطعة أو قطعتين وأنتشى عندما تلذع لسانى , وجارتنا تجلس إلى جانبى بمنديل أسود رقيق يعصّب رأسها تقطع الخضراوات أو تخرّط الملوخية فى صينية عريضة نحاسية فوق المنضدة الزرقاء المزركشة, وبعد قليل يتناول الزوج "حقيبة" الراديو البنيّة المعلّقة فى مسمار الزاوية ويبدأ فى ترديد القرآن وراء الشيخ مستمتعاً  كأنه يغنيه, وتلك العملات الورقية من فئة العشر قروش والخمس قروش والتى كان يُخرجها من جيب تلك الحقيبة جديدةً لامعةً كأنها قد طُبعت لتوّها..
اختلطَ حُزنى على رحيله بفرحةِ أن أجد زوجته التى ربّتنى مع نساء كثيرات هنا , عجبٌ أن تسافر وتعود إلى الدرب الأحمر لتجد جيرانك القدامى أحياء, فإن لم تجدهم قد ماتوا تحت أنقاض بيوتهم المتصدعة بيتاً تلو الآخر ,كانوا قد هاجروا وتركوا الحى الآيل للسقوط بأكمله إلى مصيرٍ مجهول..
عشر سنوات فى الغُربة يا بنت سوق السلاح ,عدتِ وأنت تضعين الأحمر والأبيض وصار شعرك المجعّد بضفائره القديمة ناعماً خلاباً والفضل للكيراتين, ملابس غالية تحت العباءة السوداء المطرزة ومصاغٌ يكسو لحمك وملابس داخلية تشد القوام ..وشم الحاجبين ونفخ الخدين وهندمة الشفتين ..صرتِ "هانم" ولا المهندسة إجلال ..ما الفرق بيننا ؟ هى مهندسة ورثت بيتاً أثرياً تتغطرس به وأنا يتيمة طفحَت الكوتة كى أصير على ما أنا عليه الآن ..لم يكن يبهرنى شىء ..ابنة الدرب لو سافرَت ولفّت العالم بأكمله لم يستوقفها شىء ..عشنا محاطين بعظمة وأبهة أجدادنا ..أجمل البيوت والقصور وبركة أولياء الله الصالحين ..أيدينا خاوية ..نعم ولكن أصولنا لا تحتاج إلى إثبات ..لم يقنعنى هذا الأمير بريالاته المتدفقة  لبناء مستشفى أو تلك المتفضّلة بكناسة مالها على الفقراء فى هذا البلد ..لم أجد أكرم من عطف فقيرٍ على فقير ..غَرف طَبَق الجارتين الوحيدتين  –أولاً- من قِدر البصارة  ووضعه فى سَبت الخوص الذى كان يتدلّى إلى كفىّ و"أم خليل" تنادينى "التقطى ما فيه كى أرفعه ..البصارة سوف تبرد"  ..بخار الماء يتصاعد منه وريقى لا يكاد يتوقف عن التدفق من فرط الجوع ..طرحة أمى السوداء تحتضن بضع أرغفة الخبز ..نأكل بشهيّة كبيرة ..تلك الشهية لم تعاودنى ثانيةً منذ تركتُ الدرب..ربما لأننى حرصت ألا أجوع أبداً ..ولم أرحل إلا عندما كَبُر فمى ولم يعد يشبعه نصف طبق بصارة ..


دخلت جارة أمى الحبيبة إلى الغرفة الداخلية ..أعرف تلك الحجرة جيّدا ومفرش السرير الوردى الذى كان يظهر فى الأعياد فقط ..خرجت ومعها شىء ملفوف ودسته فى حِجْرى ..فتحتُه فإذا به طرحة أمى وقصاصة من كفنها ..! غطيتُ بها وجهى وقبضت يدى بأظافرى المطلاة على قطعة الكفن ..شعرت بقلبى يُعتصَر وانهمرت دموعى ..كم اشتقتُ إليها وإلى همسها بالتسبيح بعد صلواتها ..كم آلمنى أن تموت وأنا بعيدة ..لماذا ؟
مصففة شعر أغنى نساء المملكة تبكى ..! تلك التى لا أحد يقاوم نِكاتها ونوبات رقصها المفاجىء أمامهن ..بكيتُها كم لم أبكِها منذ أربع سنوات ..كما لم أبكِ هذا الوغد الذى تركنى ليتزوج ابنة صاحب المكيروباص الذى يستأجره عليه ..كان يمسك بيدىّ ويحتضننى عندما نتسلل خلسة هناك لبيت الرزّاز..كان يغنّى لى بصوته المتحشرج عندما أشترط عليه شراء لوازم الزواج من الغوريّة :
" يا رايحين الغورية .. هاتو لحبيبي هدية ..
هاتوله توب بالقصب.. يليق على رسمه ..
انقش عليه العجب .. واكتب عليه اسمه..
والطرحة ويا الشال .. وإسورة وخلخال..
نقوا وشوروا عليا.. يا رايحين الغورية..
هاتوا لجميل الاوصاف حلق بدلاية..
فوق الخدود رفاف يحكي الهوى معايا..
ما قلت له وقالي.. نظرة يا متولي..
دا الحلو راضي عليا.. يا رايحين الغورية"
 أحلم معه أننى سأذهب إلى حمام السكريّة قبل الزفاف وأحلم ببيت يطل على الأزهر ..ظللتُ أحلم حتى صحوتُ على طردى من حياته ..




ابنة الدرب لم تكن لقمة سائغة فى أفواههم ..لا أحد يعرف أن دماء مماليك القلعة الذين فتك بهم محمد على وصلت حتى دربنا وصبغته بالأحمر لا تزال تصبغ وجوههنا وقلوبنا..عندما حكى لى الحاج عوض تلك الحكاية كمَن يحكى سيرة أبى زيد الهلالى قال لى إياكِ أن تدعىَ أحدهم "يرشك بالدم" ..ولقد فعلتُ يا حاج عوض ..

كفكفتُ دمعى ودسستُ كل ما معى من مال فى صدر جارتى ونهضتُ مسرعةً ثم هبطتُ على سلالم العقار وكل شىء يرتجّ تحت قدمىّ وكأنه على وشك السقوط ..لمحتُ رجلاً بعكازين يتحدث إلى صاحبه بصوتٍ مسموع : "صدقنى لا أريد شيئاً من الدنيا , كل ما أريده أن يبطّن لى أولاد الحلال العكازين كى تلتئم تلك القُرَح تحت إبطىّ .." ..