Thursday 16 June 2016

طَهَ بين بُوهُؤ و بُنّة -جزء من فصل -رواية الفيشاوي


قبل أن تصرخ أمي صرخةً أرجفت إخوتي كان أبي يدخّن النارجيلة ويغنّي بصوته الجميل،بينما كنتُ أنا أتأهب للخروج إلى الدنيا، يلفظني البيت الذي مكثتُ فيه تسعة أشهر بعنفٍ وغضب، لم يكن رأسي الكبير يريد الخروج، وبدا متشبثاً بالمسكن المائي الآمن، أصابع خشنة قوية عملت على جذبي إلى أسفل،ساءني أن تنتهي معاناة أمي وصراخها بطردي من داخلها إلى الأبد،فبكيتُ بحرقةٍ بينما كانوا هم يزغردون ويهتفون: ولد يا نبيّات، ولد!
الكحلُ في عينَيّ يكوي جفنَيّ،تتلقفني الأيدي وتقبّل شفاهٌ كثيرةٌ وجهي،صوتُ “الهون” المرتفع الرنّان يدوّي في أذني ويفزعني، أمي تمسك بحلمتَيّ الصغيرتين المنتفختين وتعتصرهما فتنفث منهما قطراتٌ من اللبن، أبكي وأبكي…لَكَم بكيتُ وهم يضحكون!يعلو صوت أبي وهو يحدّث جدتي: “أسميتُه طَهَ…كُلُّه أنتِ يا سرورة”.إبريقٌ يشعّ نوراً من كل جانب، تسبح حوله حبّاتُ الفول في الإناء النحاسي الكبير.سرّتي تؤلمنى، شيءٌ ما موصولٌ بها يعبث به أخي عبد الله ويجذبه بإصبعيه. الحبل الصغير يقع من تلقاء نفسه من دون أن يشدّه أخي فييومٍ آخر. اختفى الإبريق بشموعه المضيئة، وأفرغت أمي الإناء من حبّات الفول وفرّقتها على إخوتي قائلةً:”إنها تجلب الحظ لحاملها فلا يضيّعنّها أيٌّ منكم!” ثم صبّت سائلاً أحمر في الإناء الكبير وناولته لأبي من نافذة البيت، كان يرقص بالعصا والجميع يصفّق وبدأ يفرّق ما سمّته أمي”الشربات” بين الجيران. لم يكن هذا فرحاً بقدومي بل كان احتفالاً بثورة الضباط الأحرار التي قامت بعد ولادتي بأقل من شهرين وقبل أن يصير بإمكاني حتى أن أصلب رأسي!
مشاجرات عديدة بين أبي وأمي في الأول من كل شهر، ترك أبي عمله القديم مع الإنجليز وانتقل ليعمل في وزارة النقل كسائق وابور زلط،قلّ راتبه إلى الثلث تقريباً وازداد تعلّقاً بمعسّل “زغلول” في علبته الصفراء التي أحفظ شكلها جيّداً، وكثر خروجه كل ليلةٍ مع غريب هوى، صديق عمره، ورفاقه من بولاق والعزبة.أما أمي فكأنها تحارب كي تطعمنا وتكسونا. لم يكن يحنو عليها سوى أخي الأكبر عبد الرحمن الذي يعمل “مكوجي” ويعطيها أغلب ما يكسب ويدّخر البقية من أجل حلم شراء دكان خاصة به.تزوّجت أختي عفيفة من ابن صديق أبي وسكنت في “عزبة الورد”؛ كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها أبي علي يبكي وتغرق دموعه وجهه، وظل يقول لها يوم زفافها:”مبروك يا بنت ودودة، كأنك هي يوم عرسنا”.
قبل زفاف أختي عفيفة اصطحبَتها أمي إلى الحمّام، تعلّقتُ برقبة نبيات وذهبت معهما إلى هناك،دلفنا إلى الحمّام الذي يعجّ بالسيدات العاريات من كل جانب، لم أكن قد بلغت أربعة أعوام بعد،حرارةٌ لا تُطاق وبخار الماء الكثيف يحجب عني الرؤية فأدعك عينيّ وأفتحهما على وسعهما لأتحقق ممّا أرى، ضحكاتهن وزغاريدهن وهمساتهن، يحطن بي، أرى كومة من اللحم يغطيها الذهب الأصفر والقِشرة،يعرضنها على بعضهن بزهو بما امتلكن من مفاتن ومصاغ، يتلامسن فيما بينهن فتمازح الكبريات منهن الصغريات ويستمتعن بخجلهن وهنّ يغطين أثداءهن وفروجهن عن العيون المتلصّصة،أكفٌّ مثل أكفِّ الرجال تدعك الأجساد الطرية النائمة فوق الرخام البارد، تأوهاتٌ غانجة، وروائح عدة تنبعث من الأجساد ما بين الطيّب والكريه، ورأسي محشورٌ بينها لا حول له ولا قوة،ذاهلاً ممّا تبصره عيناي وتشعر به أناملي الصغيرة…عالمُ النساء الذي لا يُنسى؛ ذلك العالم الغامض ولكن العجيب والمثير.
كان يوم ختاني يوماً مشهوداً في “عزبة بلال”، لا لأهمية الحَدَث ولكن لأنه تمّ على رؤوس الأشهاد. افترش الأهالي حصيرةً كبيرةً في “الوسعاية” التي تتقابل لديها الحارات والأزقة المجاورة، وأمسكوا بالذكور بعد أن استدعوا حلاّق المنطقة الأشهر “أحمد بُوهُؤ”،وتلك كانت تسمية أهل العزبة له كنايةً عن سعاله “الديكي” المميّز.ارتدى “بوهؤ” جلبابه الأبيض النظيف وأمسك بحقيبته السوداء التي تحوي عدّة الحلاقة التي هي ذاتها عدة الختان،ثم جلس على الحصيرة وهو يشير لأمي بالموسَى فشعرتُ بأني مقدمٌ على خطرٍ كبير، شرعتُ في الصراخ حتى بحّ صوتي تدريجياً،وقد كبّلتني نبيات بذراعيها من خلفي فباعدتْ بين ردفَيّ الهزيلين. بتر “بوهؤ” جزءاً من عضوي فكان الألم لا يُحتمل وانهلتُ سباباً بذيئاً على الحلاّق وانبجس دمٌ غزيز مني، وعندما أفلتتني أمي وجدتُ بحيرةً من الدماء تسيل تحتي! تلك هي المرة الأولى في عمري التي أرى فيها دماءً حارة طازجة، وكانت لسوء الحظ دمائي أنا!توافد الذكور من بعدي على “أحمد بوهؤ” يفعل بهم الشيء ذاته بالموسى نفسه، حتى استحالت الحصيرة الرملية إلى الأحمر من أثر مجزرة ذكور العزبة الصغار!
عندما أتممتُ عامي الخامس أرسلتني أمي إلى كُتّاب الشيخ الضرير “علي بُنَّة”. كنتُ خائفاً وازدَدتُ خوفاً عندما أبصرته جالساً فوق كرسيه في حجرةٍ صغيرة وأطفال العزبة جالسون أمامه. نظرتُ في وجهه العابس فوجدتُ إحدى عينيه مفتوحةً وحدقتها بيضاء ومعلّقة إلى زاوية واحدة بلا حراك، والأخرى مزمومة كأنها مغلقة على سرٍّ غامض،يمسك بعصا خشبية رُبِط في طرفها سوط من الجلد الطويل.
يرتّل الشيخ “علي بُنّة” القرآن آيةً آية ويأمرنا بالترديد وراءه بصوتٍ عالٍ وواضح، يستطيع بمهارة التمييز بين أصواتنا الحادة فيكتشف من أخفض صوته أو صمت منا فيهوي بكرباج العصا فوقه تماماً. يعلو صوتي يوماً بعد يوم، خوفاً من سوط الشيخ الموجع، ثم يصيبني التعب فأخفضه رغماً عني، أتّقي ضرباته المتتالية فأُخفض رأسي خلف جسد زميلي الجالس أمامي،فينال منّا سوياً.كنتُ على إيمانٍ تام بأن الشيخ يرانا وليس بالضرير كما يُظهر.أُخرج نصف الرغيف المحشوّ بالجبن من حقيبتي المصنوعة من القماش فتمتدّ الأيدي لتتخطّفه من بين أصابعي عنوةً فيتفتت إلى قطعٍ صغيرة في أفواه الأطفال الجوعى وأشعر بالظلم لأنني لم أتناول منه سوى قضمة صغيرة لا تسدّ جوعي، بينما تقذف أمي في حِجر زوجة الشيخ “علي بُنّة” عدداً من أرغفة الخبز “المفقّع” الذي أحبّه والبيض وقطعة كبيرة من الجبن القريش الذي تصنعه بنفسها في بيتنا.
ولكي نهرب من الكُتّاب كنّا نتذرّع بقضاء الحاجة خارج الحجرة الصغيرة الخانقة، ونتجمّع في الساحة المهجورة خلف المنزل فيهرب منا من يهرب ولا يعود. وعندما اكتشف الشيخ أمرنا كان يحصي عدد الأطفال المتسرّبين وقد حفظهم جيداً، فيخرج إلى الساحة ويهوي بالكرباج فوق ظهورنا العارية أثناء قضاء الحاجة قبل أن نتمكّن من الهرب. عدتُ من الكتّاب ذات يوم وأنا مصرٌّ على ألا أعود، وتلك كانت المرة الأولى التي أصرخ فيها في وجه أمي وأقول لها بصوتٍ عالٍ ليس بخفيضٍ أبحّ مثل الذي أردّد به القرآن: لا!
انصاعت أمي لرغبتي، وكانت تضمر لي نيّةً أخرى وهي إرسالي لمدرسة الشيخ جابر. أذكر كيف حاولت إقناعي وهي تغريني بمصروفٍ يوميّ يبلغ “تعريفة”،وكيف التفّ إخوتي حولي يعدّدون مزايا مدرسة الشيخ جابر. ذهبتُ وأنا عازمٌ على الهرب من جديد إن لم يعجبني الحال بعد أن أحصل منها على التعريفة. لم تمرّ أيام قليلة حتى أصابني الملل من المدرسة التي تتكوّن من ثلاثة فصول في مسكن صغير بجوار بيتنا، حتى اقترح الشيخ جابر، الذي يدرّس اللغة العربية إلى جانب تحفيظ القرآن الكريم، أن يشترك التلاميذ في “جمعية” بخمسة مليمات يومياً، فرَاقَت لي الفكرة خاصةً بعد عمل “قرعة”من بين خمس وأربعين تلميذاً استقرّت عليّ، فكنتُ أول من قبض مبلغ الخمس والأربعين تعريفة،وضعها الشيخ جابر عني في علبةٍ من الصفيح وأمرني بالذهاب إلى البيت مبكراً قبل انتهاء اليوم الدراسي خشيةَ أن يسرق أحد التلاميذ المبلغ الكبير مني! عدتُ إلى أمي بالعلبة الصفيح وحكيتُ لها ما حدث فلم تصدّقنى وذهبت مهرولةً إلى الشيخ جابر فصدّق على كلامي، واحتفظت أمي بالمال، وقد استمرت في إعطائي التعريفة اليومية لأدفعها إلى الشيخ حتى انقضت أيام الجمعية التي لم أظفر منها بشيء سوى بفرحة حمل العلبة الصفيح الرنانة التي تحتوي على ٤٥ تعريفة.
غير أنّ وجه الشيخ جابر، الذي ظهر في بداية الأمر طيباً، ويده التي تخلو من السياط أبعدا عن إدراكي كل تشابه محتمل بينه وبين الطاغية “علي بنّة”، ولكن الحقيقة المؤلمة أنّ ما حسبناه موسى كان فرعوناً عندما علّقني الشيخ جابر في الفلكة وخلع حذائي الصغير وانهال عليّ ضرباً بـ”الخرزانة” الطويلة إثر وشايةٍ ظالمة من التلاميذ. صرختُ ثم صرختُ ألماً حتى بحّ صوتي كالعادة، وعندما اشتدت استغاثتي تركني، فوطأت قدماي الأرض وأنا لا أكاد أشعر بها. كان بداخلي إحساس أدركتُه فقط وقتها للمرة الأولى، اسمه: الظلم! وأظن أنني وأنا أقذف المدرسة وزجاج نوافذها وتلاميذها والشيخ جابر بالحجارة كنتُ أعلن عن كراهيتي الشديدة لهذا الظلم، وقد بدأت الانسلاخ من جلد الحمل الطيب!