Sunday 21 December 2014

بغداد ..المَن والسلوى ..





(1)
      
لم  أكن أدرى أننى اليوم سأترك مقعد الراوى وأهبط إلى عمق الحكاية المكتوبة, فأعزفُ لحناً على "الجَوْزَة" العراقية وأحلّق بعيداً عن سماء مصر فأحطّ على أرضٍ وُلد التاريخ من رحِمِها, مخلّفةً كل تحذيرات الأحبّة والأصدقاء فى دفتر أمى الأزرق القديم, حيث أكتب بخط يدى كما شاء لها أن أكتب : " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ", آية سورة القصص,التى أنزلها القاصّ الأعظم, فيشاء أن تكون "قصة" كتبتُها سبباً للسفر إلى "العراق" سرة الأرض ومركز الدنيا..
فى الطائرة ,التقيتُ بـ"وئام" , جارتى التى جلست إلى جانبى, من كلمتها الأولى لم أتبين سوى حرفين صحيحين على الأكثر : الألف والنون, فعرفتُ أمر جارتى الصغيرة وما تعانيه من صعوبةٍ فى السمع والكلام, بابتسامةٍ عريضة ساحرة يؤطرها حجابٌ وردى وبعينين هما  كل ما تملك من أدواتٍ للتعبير, فاضت "وئام" بجمالها وشجنها الداخلى وأشارت دون أن تشعر, إلى النبأ العظيم المختبىء فى بلاد الرافدين , تريد أن تحكى وتشكو وكأن لا وجود للسان واحد صحيح يمكنه شرح الجرح السارى بينهما ..!
نامت "وئام" وتركتنى للفضول والحُلم ,هبطت عبرة لم أستجدِها من عينٍ تراقب بلادى مبتعدةً تدريجياً من نافذة الطائرة البعيدة أيضاً, حائرة تريد أن تحط على كتف الحديقة البابلية الصغيرة النائمة إلى جانبى, يمرّ ببالى برج بابل وأحلام السلطة الكذوب التى لا تكتمل مثله أبداً, تأتى المضيفة لتضع فى حجرى ثلاث سمّاعات للأذن لى ولجارىّ النائمين,لماذا أنا يا "وئام" أعطيك هدية مزعجة كهذه؟ فوضعت سماعة كل منهما فوق مسند كرسيه, ثم أسقطتُ سماعة "وئام" عمداً بمرفقى, أحببتُ جريمتى الصغيرة تلك والتى أعادتنى إلى جرائم الصغر حيث لا مكان لسوء النوايا ,أحببتُ النوم جداً فى تلك اللحظة إلى الدرجة التى جعلتنى أريد الذهاب إليه لأحتضنه.
احتوت "بغداد" عجلات الطائرة ثم هبطنا جميعاً منها, وقبل دقائق رأيتُ من أعلى دلتا ,ذات طَفْلة صفراء بفعل نهر يخترق الصحراء,  فى حافلة المطار حدّثتنى "وئام" ببضع كلمات تريد بها التأكد أن هناك من ينتظرنى وأن بيتها البغدادى مفتوح, تأملتُ جيرانى الهادئين بصورةٍ أفضل,فرأيتُ أشياء يتفق فيها أغلبهم: أنوفهم القيصرية المتشابهة وشواربهم الكثيفة التى تملأ الحيز الواسع فيما بين الأنوف والأفواه, وعيونهم الحزينة المتأمّلة ...والصمت ..  آخر ما تركت لى جارتى منها يدُها البيضاء بخاتم ذهبى غاص فى كفى, وقبلة على خدى, وترقب حذِر لما هو مكتوب على أعتاب مدينة المنصور المستديرة :بغداد..!
استقبلنى هواء بغداد بترحاب يقارب جو الخريف المصرى, كريم وحانٍ ولكنه مشبّع بالظمأ , معتلّ بالشجن , هواء جريح يدور حول أرضٍ حزينة, كيف للأقدام القاسية أن تطأها؟ وألا تهدهدها وتترفّق بها؟ العيون البغدادية ترمق الفتاة المصرية الوحيدة والتى تبدو –برغم كل شىء- متحمسة, لا تتأفف من الانتظار فى طابور الجوازات, تتأمل عمال النظافة "البِنجال" يستلمون العمل فى جماعات, وضباط الميناء الجوى وقد أشبعتهم عيون الغرباء شكًّا وريبةً مازال بوسعهم أن يبتسموا, يلتقطها مبعوث وزارة الثقافة العراقية ويساعدها على إنهاء الإجراءات, وهنا على الحائط النحاسى الكبير المزخرف بكلمةٍ واحدة :"بابل" فُتحت بوابة مدينة الدنيا وبدأ طنبورٌ أكدىٌّ قديم يعزف على أوتار قلبى فى عناقٍ أوّل طويل بينى وبين "العراق" على صدر "بغداد", ثم التقيتُ برفيقة الرحلة "صباح الدبّى" الشاعرة المغربية الجميلة للمرة الأولى والتى تزور العراق للمرة الرابعة, وقد انتزعت منى الضحكة الأولى فى غمرة انتباه حواسى كلها حيث هتفت "صباح " فى مبعوث الوزارة: "أين هم داعش يا مصطفى؟".
فى السيارة, وفى الطريق إلى فندق المنصور, زاغت عيناى على كل شبرٍ نمرّ به,  استوقفنى تمثال "عباس بن فرناس" المجنّح, العالِم الفيزيائى العظيم الذى أنصفته بغداد بالذكرى, صاحب أول طائرة شراعية حلّقت به فى التاريخ ومات على سريره بعد اثنى عشر عاماً, الرجل الذى ظُلم فأُشيع عنه كونه الأحمق الذى طار من فوق جبل قرطبة وسقط ميتاً..ودعوتُ لبغداد, وللعراق كله ,دعوتُ له بالإنصاف الذى يمارسه مع المظلومين..
تفترش النخلات الباسقات الأرض, تصل أحلام بغداد بالسموات, وتقف مدرعات ودبابات الجيش العراقى على مداخل ومخارج الشوارع بكثافة للتفتيش, وبدأتُ أتحسس شعوراً حيًّا نابضاً فى جسد أهل المدينة , تدق طبول الأغنية الحماسية فى سيارتنا وتتداخل كلماتها مع تبادل التحايا بين السائقين والمارة والضباط والعساكر, "طَقّت ولْا مَا طقت احنا الموجودين ", تجوب السيارة شوارع بغداد الأصغر, تكسو البيوت آثار الشعور النابض ذاته فى ساكنيها , محال "حبّات فلافل " وعربات يهتم أصحابها بزخرفتها رغم بساطتها , البغدادى يزخرف الحزن بروح رسّامٍ عبّاسى ,كل شبرٍ فى بغداد يقاوم..يقاوم اليأس والخوف والترقب ..وكلابَ العدو المتربصة فى الشمال والعدو الأمريكى ذاته المتوارى خلف المنطقة الخضراء..
وصلنا إلى فندق المنصور بشارع الصالحية فى منطقة الكرخ, حيث استقبلنا وفد من وزارة الثقافة العراقية بترحابٍ بالغ, دار حوارٌ قصير بيننا , كل منا متلهّف لمعرفة أحوال الآخر فى بلده, كنتُ مأخوذة بالشكر والعرفان لقطرٍ شقيق يستضيفنا فى محنةٍ وضائقة, وكانوا مأخوذين بالاطمئان على مصر : كيف حال أم الدنيا؟ هنا فى بغداد لن تتمالك دموعك من فرط التأثر والكرم عندما يأتى ذكر مصر, من الصدق الجلىّ الذى يسكن كل حرف فى لهجتهم العربية التى تتخللها حروف أورية و آشورية, وسألوا : لم تخافى من المجىء؟ قلتُ لا والله, ولم أكن أدرى لماذا لا أخاف, الآن فقط علمتُ السبب..


(2)


أكرَم الخليفة أبو جعفر المنصور الضيفة المصرية ومنحها شرفةً بغدادية تطلُّ على "دجلة" الخير, تحاول أن ترسم صورةً بخيالها لقصره الدجلاوى : قصر "الخُلد", وترسلُ مرثيةً طويلة من عينيها إلى ذكراه, تبحثُ عن طللٍ واحد يشفى قلباً  كشراعٍ يجرفه فيضان النيل, ويدين مخضبتين بغرينٍ نبت فيه الشوق كله.. يتدفق ماء دجلة بين هدأة المانح وعجلته, كأنما يريد أن يفيض ولا يقدِر, يقسم بغداد إلى كرخ ورصافة, وليس له من شريكٍ فيها ولا حتى قرينه "الفرات" نهر سومر الثائر, المباغت فى فيضانه دون إنذار ومهد حضارة بلاد الرافدين..
إلى يمين شرفة المنصور, يلوّح "الرشيد" إلىّ بيده من الشارع الذى يحمل اسمه , حيث تبرقُ قبة مسجد "الحيدر خانة" الزرقاء بزخرفةٍ بهيّة مبهجة, وسط تكدس البيوت والمبانى المحيطة وزحام الأسواق, وبقايا آثار لبوابةٍ عريقة بأعمدةٍ, ولمدرسة لم تعد موجودة تحمل اسم ابنه الخليفة "المأمون", مؤسس بيت الحكمة أول جامعة فى الدنيا, بعد أن زاره "أرسطو" فى المنام وسأله: ما الحُسن؟ فقال له "أرسطو" : ما حَسُن فى العقل..
بعد راحةٍ قصيرة, بدأنا نستعد إلى الاقتراب من دجلة أكثر فى نزهةٍ على شاطئه.. أرجِع البصر كرتين إلى دجلة, فلن ترى فيه من عيبٍ, ينام على خديه سهولٌ خُضر وتعانقه من أعلى أشعة شمس "بغداد" : أيادٍ تلامس صفحته فتُحيل اللجين إلى تبرٍ.. ليت شعرى, كيف وصفوكَ؟
غابت الشمس, وراقبتُ من شرفة المنصور مضيفى أول ليل فى بغداد حيث  تتسلم  روح الإله "ننار" السومرى :إله القمر, مقاليدَ مدينة السلام, يضوى نهر دجلة بالأنوار المعلقة فوق جسر "الرشيد" والتى تشكل أهراما زرقاء متتابعة, بينما تتحوّل المدينة فجأة إلى عرسٍ كبير يزهو بأثواب الزفاف البيضاء وبطبولٍ ومزامير, فيعيش المرء فيها ليلةً واحدة بمقدار ألف ليلة مما يعدّون, فى كلٍّ منها تُزّف عروس  عشتارية إلى حبيبها "تموز".. خمس أعراس فى فندق المنصور وحده ليلة وصولنا إلى بغداد, تلك أيام جميلة تكثر فيها الأفراح, تسبق أياماً حزينة يحّرم فيها الزواج لمدة شهرين متتالين فى البلاد, إحياءً لذكرى عاشوراء واستشهاد الحسين رضى الله عنه..فلا تحسب نفسك غريباً إذا ما صادفتَ فرحة عرس, ستجد نفسك وسط الجمع ,سيحث رفاقك البغداديون الفرقة الموسيقية على عزف لحن مصري شعبي من أجلك, ليلقوا التحية بإعداد زفة خاصة لك , ستمسك  أم العروس بيدك وتراقصك , ستقبّلك وتحمّلك سلاماً إلى أهلك وتطلب منك تصويرها, , والمرأة ذاتها بعد عدة أسابيع ستسافر إلى "كربلاء" لتبكى أمام ضريح الحسين كأنه رضى الله عنه قُتل أمامها من جديد وتوزع الماء لتروى ظمأ حفيد النبى صل الله عليه وسلم, هكذا فالضدان بها مجتعان , شىءٌ لن يحدث سوى فى دار السلام..

فى شارع "أبو نواس" يصطف أهل بغداد يبثون "دجلة" الأفراحَ والأتراحَ واقفين على ضفته أو جالسين فى المقاهى والمطاعم والمراسى المطلّة, وصلنا إلى مَرسَى "الجادرية" العائم, وصعدنا إلى أعلى, هنا يقرّ الوَنَس, فينتشى مَن شَفّه الهم, ويتسامر الأصدقاء ويسكر الأحبة من اللقيا, وهنا  أنا فى قلب "دجلة" هو سامرى وحدى ولو فاض سمّاراً ... تصاعد تدريجياً من أسفل صوت "ﭬيولينه" مدللة الأوتار, فتقافزت قلوبنا فرحاً عندما وجدنا شاباً يحتضنها وكان يجربها فقط, فطلبنا منه ونحن فى الطابق العلوى للمرسى أن يعزف شيئاً وظلّ يعزف حتى رحلنا, صفّقت القلوب قبل الأيدى ثم غادرنا, وبدأنا نمارس شيئاً جديداً لأول مرّة سنحاول أن نعتاده فى بغداد: أن نخلّف قطعةً من قلوبنا فى كل أرضٍ نطأها ..
 أسندتُ رأسى فوق الوسادة, ومنها الفِكَر تتطاير شظاياً وردية على سيرة "أبى نواس", يُسلِمنى "الرشيد" إلى شعره, فأتخيّلنى حبيبته "جنان" يردّ علي فِكَراً بشعرٍ:

إذا التقى في النـوم طـيفـانـا  عاد لنا الوصلُ كـمـا كـانـا
يا قرة العـين فـيمـا بـالـنـا     نشقى ويلتذ خيالانـــــــــــــا

 (3)


استيقظتُ على صوتها ,تمدّه وتُقطّعه شدواً , هرعتُ حافيةً أرقُبها من خلف ستائر شرفة المنصور فأبصرتُ حمامةً رمادية من حمائم "بغداد", حطّت فوق السور ساكنةً, طويلة الرقبة, بيضاء الطَّوق, لها منقار ينحنى بلطفٍ, هل هى "زاجِلة"؟ وهل حملت جدّاتُها مراسلات الحكام والسلاطين فى الزمن القديم؟ أى الرسائل تحملين اليوم أيتها القُمرية؟ وممّن؟ أى رسولة محبة  حمّلوها سلاماً من الضفة الأخرى إليّ؟
على بعد خطواتٍ قليلة من ضفة "دجلة" صعَدَت نسائمٌ إلينا, تهزّ من أشجار التوت أوراقها,  تغمرُ صدورنا على مهلٍ فنتنفسها بعمقٍ ونزفرها ببطءٍ فى لذّة وكأنّها ريح الصَّبا, ثم دلفنا إلى قاربٍ مع الصحبة يقوده "حَيدر", أزيز المحرك يُشعل ماء النهر, ثم يخفت تدريجياً مع أصواتنا المتحمسة ,نصمت.. فنسمع لدجلة خريراً ونشتمّ له رائحة يعطفها عناق القارب الصغير, لمستُ بأناملى الماء وشعرت بأنهرٍ من المحبة والألفة باسم دجلة قد شُقّت فى قلبى, آنس بجزيرة خضراء القلب فصيحة اللسان ,تلتقط صوراً لى معه :الكاتبة البهية زينة بو رويسة من الجزائر..
وصلنا سريعاً إلى الضفة الأخرى وكان فى انتظارنا "المتنبى" رافعاً يده التى تمنح صكّ الشعر لأحفاده, ودواة حبرٍ تحت قدميه أُغمدت بها ريشته, تتنزّل عليهم هِبات ربة الشعر "أنخيدوانا" فى يوم الجمعة المبارك من كل أسبوع حيث يقدّمون قرابين الفن المقدسة ..عن يسار أبى الطيب, ساعة "القَشلة" العثمانية الباسقة وعن يمينه المركز الثقافى البغدادى وبين يديه العراقيون يتطيّبون بمسك الكلمة..
الشعر..يُلقى فى الساحة أمام تمثال "المتنبى", يبدعون فى حضرته وبحورُه تتقطّر فى آذاننا, بالونات وردية ترتفع إلى أعلى , تصافح أصوات الشعراء التى تحملها أوتار عود شجىّ.
اجتزنا بوابة المركز الثقافى البغدادى, وقفنا نتأمل الباحة الكبيرة حيث صور فوتوغرافية ضمن حملة توعية صحية أقامتها اليونيسيف, وحيث تُعرض الكتب النادرة لكبار الأدباء والشعراء, ثم بدأنا نتجول فى أروقة المكان الأثرى المكوّن من طابقين, شديد الشبه فى معماره ببيوت مصر الفاطمية, يضم عدداً كبيراً من القاعات التى يحمل كل منها اسم عالم أو أديب أو فنان, ففى قاعة "جواد سليم" قراءة لقصائد للأطفال على هامش أسبوع النزاهة الوطنى, وفى قاعة "مصطفى جواد" محاضرة حول رابطة الأنساب فى العراق والوطن العربى, أما فى قاعة "حسين على محفوظ" فدارت ندوة حول البحث العلمى ومعيار الجودة العالمى كمنهاج للتقدم, وعُرض فى قاعة "ألف ليلة وليلة" الفيلم الوثائقى "سبايكر", ثم أبهرتنا لوحات فنانى بغداد فى قاعة الفنون التشكيلية إذ جسّدت ملامح الشخصية العراقية بين الواقع والخيال ..
أصبوحتان شعريتان لرابطة شعراء المتنبى ومجموعة صناع الأدب أُقيمتا فى قاعة "نازك الملائكة", واستضافت قاعة "على الوردى" محاضرة عن المرأة والقانون, ثم سَمِعنا على عتبة قاعة "مسرح الشناشيل" صوتاً عذباً فيه حلاوة وفيه طلاوة, لم يكن هناك موطىء لقدم من شدة الزحام, ولكن فى دقائق معدودة أفسح لنا الشباب البغدادى أماكن للجلوس فإذا بفنانٍ عراقى أصيل هو"طه غريب" ينشد من شعر أبى فراس الحمدانى ويعيد على مسامعنا ما غناه ناظم الغزالى الخالد فقال :
أقولُ وقد ناحت بقربى حمامة:   أيا جارتا لو تشعرين بحالى؟ 
اغرورقت العيون بالدموع, واحتبست الأصوات فى حناجرها وفاضت القلوب وسكرت العقول و"طه" يحرّك مِسبحته ويشجينا   :
 أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا   تعالَى أقاسمك الهموم تعالَى.
صفّق الحضور على إيقاع الأغنية المتغيّر من الموال الحزين إلى المفرح ولكن لم يكف دمع ثلاثتنا عن الهطول :"صباح" و"زينة" وأنا, لا ندرى أى قوة فى العالم بإمكانها أن تظفر بدموع مغربية وجزائرية ومصرية فى ذات اللحظة على صدر بغداد, كيف يفيض القلب جمالاً وفرحاً وحزناً هكذا؟! برقت الأنوار وتوحّد غناء الجمهور مع "طه" ونبضٌ بى فوق نبضى يوشك أن يرتجّ له زجاج الشناشيل الملون!
 أعجِب بتلك الأرض وساكنيها , ففى حديقة "القشلة" يتضح حرص العامة على إلقاء الشعر الشعبى, وسوف تضم كل مظلة خشبية مجموعة من العازفين والمطربين يقدمون فنّهم لجمهورٍ مستمع متذوق ,فى تناغم بديع بين الفنان والمتلقّى, وبين الشاب والشيخ حيث تتوافق أذواقهما, أباريق النحاس الأصفر تزيّن حديقة القشلة وتقف ساعتها الكبيرة المطلة على "دجلة" فى ثباتٍ وعناد.
كما ينبّىء المتنبى من أخبار الأقدمين فإن الذى يعرفه القرطاس والقلم حق المعرفة يحتفظ بصناعة الورق إذ تضمّها ضفاف الأنهار على مر العصور , هنا سوق القراطيس حيث مستلزمات الطلاب فى المدارس والجامعات, والكتب المفروشة كبضاعةٍ رائجة فى الشارع العتيق..ثم وُلدت بهجةٌ غير متوقعة, كشجرٍ أثمر لتوّه فى الممشى فامتلأت أقفاصٌ برمانها ذى القشرة الصفراء على جانبي الطريق, يُعد منه العصير المفضّل لدى العراقيين فى أوانه من كل عام..

 خطوات قليلة وتواجهنا لافتة : "مقهى الشّابندر-مقهى الشهداء-الحاج محمد الخشّالى", نحتسى الشاى العراقى مسكوباً فى أكواب صغيرة حتى الحواف مع سكّر زائد غير مذاب, نرشفه جالسين فى مقاعد متراصة جنباً إلى جنب, نتأمل صور لزعماء وأدباء وفنانين تغطى جدران المقهى الشهير إلا قليلاً, أبرزها صورة فوتوغرافية لسيدة فى زى شعبى منتصبة تمسك بعصا طويلة يغوص نصفها فى الماء وزوجها جالس يضم طفلهما فى قارب الصيد الصغير, هنا يلتقى أعلام الثقافة والسياسة والفن منذ عام 1917 , حيث كان المقهى جذوة للمقاومة على مرّ العصور فخرجت منه مظاهرات فى أثناء الاحتلال الإنجليزى, واكتوى بنار الإرهاب فدُمّر 70% منه عام 2007, وفقد صاحبه محمد الخشالى أربعا من أبنائه وحفيداً من جرّاء الحادث الأليم..
وكعادة الأشقاء هنا فى دار السلام, عندما يأتى ذكر مصر تخرِج الصدور ما يجيش فيها من عشقٍ لها فحمّلنى أديبٌ من "آربيل" سلاماً لها ولأهلها..
حمل قاربٌ آخر أجسادنا إلى الضفة الأخرى من النهر, وعيوننا معلقة  على المتنبى : النسخة الأحدث من أسواق عكاظ وذى مجنة وذى المجاز , أما قلوبنا فمرهونة بالعودة إلى هناك, ثانيةً أجد حمامة جديدة على سور شرفة المنصور تنوحُ فأقول لها:
 أيا جارتا لو تشعرين بحالى؟


(4)

كنتُ قد قرأت اسمها قبل عدة أيام وذلك منذ اليوم الأول لى فى ضيافة المنصور, ولم أكن قد رأيتُها بعد, أما الآن فأنا أقف عند بوابتها, أنتظر للحظات قبل أن أعبر إلى الداخل, أريد أن أجمع شتات روحى الممزّقة على عتبتها: "قرطبة".. هكذا أسموا القاعة التى ستتغير فيها حياتى للأبد , السلامُ عليكِ يا درةَ الأندلس, كأنك تشرقين من خلف جبل "العروس", تحوك أصابُعك على عود "زرياب" الموصلىّ وتراً جديداً فيضرب لحناً سماوياً يتّكىء على الوجيعة, موالاً طويلاً بمقدار ليلةِ قدرٍ فى جامع قرطبة فقيدت شموع الثريّات كلها, وأضاء منبر صُنع من أبنوس وبَقس وعود المِجمَر, وأُخرِج مصحفٌ يحمله رجلان خطّه "عثمان" رضى الله عنه بيمينه ودمه قاطرٌ فوقه.
أحمل قلبى التَّواق وأجلس, تبرق الأنوار فى عيني الدامعة , أساءل قرطبة على أرض "بغداد" : مَن الذى شيّد التاريخ ؟ ومَن الذى طمسه ومحاه؟  تمتد يدٌ كريمة لتهدينى العدد الأخير من مجلة "ثقافتنا", وكعادتى أفتح بشكلٍ عشوائى لتستقر قرعة القدر على صورة  "غلامٍ ضاوٍ نحيل, كأنه قصبة, رُكب رأسه المستدير كأنه حبة الحنظل, على عنقٍ دقيقة تميل إلى الطول وعلى جانبى الرأس أذنان كبيرتان, وتحت الجبهة المستعرضة التى تنزل فى تحدّب متدرج أنف كبير يصرفك عن تأمله أو تأمل العينين الصغيرتين العاديتين على جانبيه فمٌ واسع", هو فم بدر شاكر السيّاب الشاعر الـﭼـيگورى العظيم كما وصفه "إحسان عباس", برز اليوم من بين الصفحات ليحتفى برائدةٍ زاحمته شعراً , تُنثَر على ذكراها الكلماتُ الوردية وتُقام من أجلها اليوم احتفالية تسليم جوائز المسابقة التى تحمل اسمها المتفرّد, إنها نازك الملائكة رائدة الشعر الحر..
تتعانق الأكف ونتبادل التحايا مع شقيقات العروبة هنا وهناك الفائزات بجائزة نازك الملائكة فى الشعر والقصة والنقد الأدبى,تربت على كتفى عن يمينى ياسَمينة فينيقية حملتها إلينا روح الشعر من ميناء طرطوس, ليندا إبراهيم شاعرة سوريا المتألقة..وعن يسارى القاصة "زينة بورويسة" ضاحكةً مستبشرة من الجزائر, و"صباح الدبى" شاعرة المغرب تطل علينا بثوبٍ أخضر يطير بنا إلى هناك, ومن لبنان جاءت الشاعرة "نور حيدر" تحمل شُجَيْرتين من الأرز فى عينيها وجنيناً حملته –لم يولد بعد-خشينا عليه طيلة الرحلة, أما العيون العراقية الحنون فقد أحاطت بنا وأسرتنا كرماً ,القاصة المستشارة إيمان المرعبى والأساتذة الأكاديميين د.فاطمة بدر ود.نادية سعدون د.ماجدة هاتو هاشم والتى أهدتنى كتابها فقرأت إهداءًا لم أقرأ مثله من قبل :
"ابنتى ﭬيان , علّى أدانى بعضاً من تفوقك الأسطورى.
ولدى مصطفى , أهكذا كل ولد, أم لم يلد قبلى أحد؟"

"ن والقلم وما يسطرون ", "نون النسوة" يا سيّاب , و"نون" نزحت من الموصل,.. وكل "نون"..

وننتظر..

وتُنادَى أوطاننا وأسماؤنا فننهض نتسلّم هدايا "نازك", لحظات.. كالتى يذوب فيها سكر الشاى البغدادى الداكن فتحلو الحياة, ويتعطر هواء "قرطبة" بعطور الفرح, ستختفى الحدود وتمتزج الضحكات وتتشابك تماثيل "نازك" المتشابهة فى أيدينا..

وانتظرناها ..زائراً لم يجىء..!

"وما كنتُ أعلم أنّك أقوى من الحاضرين
وأنّ مئات من الزائرين
يضيعون فى لحظة من حنين
يمدّ ويجزرُ شوقاً إلى زائر لم يجىء..!"


(5)

أشعر ببرودةٍ شديدة تجتاح جسدى من تحت الأغطية البيضاء, الرعد يهز شرفة المنصور بقوة , ظَلّ البرقُ يجىء ويذهبُ, ولا شىء أفكّر فيه سوى رعدة" المأمون" الأخيرة :
"البَرد ..البَرد.. يا مَن لا يزول ملكه ارحَم مَن زال ملكه..يا من لا يموت ارحم مَن يموت"..
يومٌ أخير , أمرّ فيه على كل شىء هنا فى "بغداد", سحر "دجلة"  ونوح الحمامات وحكايات "الرشيد" وصخب "أبى نواس " وروعة "المتنبى" ..طعومات وروائح تُصنَع بتأنٍ وعلى مهلٍ, السمك "المسگوف" ينضج على لهبٍ لا يمسُّه, مصلوب على الصبر الذى لا ينفد من قلوب العراقيين التى أنضجها الزمان, الأيدى المُحبّة التى تطعمُنا , تناولنا "خبز اللحم" معجوناً بالحنين مختمراً على مقامات فقدٍ طويل..يرددون تلك الكلمات البسيطة الحاسمة على ألسنتهم : "گلّش" و"ماگو" ,  يقضمون فاقتهم , تأبى نفوسهم الرقيقة ذبح الحمائم فلا يأكلونها أبداً, منتصبو القامات مثل نخيل"التبرزَل" أخضر الجذع بشوك كثيف يطرح رطباً بلون الكهرمان, لحمه ليّن لا ينكمش نحو اللب ,نادر الألياف غير لاذع الحلاوة, ينضج أيضاً ببطء..
مخاضٌ وراء مخاض لا يفارق هذا البلد , ولكنه يؤتى ثماره فى  كلّ حين..
"مو حِزِن..لكن حَزِين"..
فى آخر الرحلة, دعانى "المنصور" إلى شارعٍ يحمل اسمَه لأتذوق الحلوى العراقية, فأبصرتُه عبر زجاج الـﭬـاترينة مغموراً فى الطحين الأبيض, واسمُه منسوخٌ بوضوح :" مَنّ السَّما"..وأحياناً يلقبونه بـ"المَن والسَلوى", امتدت يد الحلوانى إلىّ بقطعةٍ منه ملفوفةً فى الطحين وتذوقتُ لأول مرة الحلوى العجيبة ذات الاسم الأعجب, ذلك الطَلّ السماوى الذى يهبط كالثلج على شجرٍ أو حجرٍ, يشتد بياضه أكثر من اللبن, يحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ..
"قل لى يا حلو منين الله جابك؟"
صف لى شعورك وأنت تتذوق قطعة من السماء أو ندفة من السحاب..
شردتُ وأنا ألوك القطعة المحشوة بالفستق, أتأمل المصادفات التى وضعنى أمامها "المنصور" : المَنُّ للمَمْرور, والسلوى لمن لا يجد ما يُسلّيه ويذهب همه وحَزَنه..كيف ذابت الآلام على تلك الأرض وحلّقت الأمانى إلى جَنائِن الإمكان فى سمائها؟
غزَل أحفاد "عشتروت" سنابلاً من الفرح فى قلبى, وهم ينزفون..! الأعين نضّاخة والوجيعة فضّاحة واليد التى تُطعِم لا تُطعَم ..
حصارٌ للبطون وللعقول وللأحلام لم ينتهِ بعد, أبداً لم يفلح مع الرجل العراقى الذى لا يستسلم, ولا مع المرأة صانعة المعجزات, انكسرت مطامعُ الطغاة والغزاة على أهلّة الإبتسام فوق وجوههم, يتشبثون بنبوءات التاريخ ويوقنون من النصر المحقّق..ولكن إلى متى يا عرب تسرى الجراحات فى جسد دجلة والفرات؟
نَم مطمئناً يا الـمأمون , أثق فى بيتِ الحكمة الذى تبنيه الهوية العراقية من جديد, إنى لأشم ريحَ اليُسر يأتى من خلف العقول المستنيرة والقلوب النابضة بعشق الوطن ..
"دثرونى ..دثرونى "..
 إن  الرسالة السويّة التى وُلدت غريبةً فى "مكة" برعدة محمد صل الله عليه وسلم فى قلب غار حراء تسكنُ قلوبَ حامليها حتى مماتهم,  تضم أجنحةُ الروح القدس "جبريل" أفئدتهم مجدداً مع سطور القرآن المنزّل..تفتح ذراعيها بكل تسامح لقلوبٍ مأهولة بالحب أياً كان اعتقادها..
القلوب العراقية الجُمّارية تذوب فى عشق الوطن الواحد..تدثّر محمَّداً وتسقى الحُسَيْن..ينشدون جميعاً :
مَــوطِــنِــي مَــوطِــنِــي
هـــــلْ أراكْ فـي عُـــلاكْ
تبـلُـغُ السِّمَـاك تبـلـغُ السِّـمَاك
مَــوطِــنِــي مَــوطِــنِــي
الشبابُ لنْ يكِلَّ هَمُّهُ أنْ تستَقِـلَّ أو يَبيدْ
نَستقي منَ الـرَّدَى ولنْ نكونَ للعِــدَى
كالعَـبـيـــــدْ كالعَـبـيـــــدْ
لا نُريــــــدْ لا نُريــــــدْ
مَــوطِــنــي مَــوطِــنِــي
الحُسَامُ واليَـرَاعُ لا الكـلامُ والنزاعُ
مَــوطِــنِــي مَــوطِــنِــي

أدفع حنينى إليها مع حقائب السفر ولم أفارقها بعد, أتفقّد الوجوه كآخر صلاة, أتنفّس بعمقٍ لا يطاوعنى فيه صدرى المتخم بالتنهيد, أصعد بخطواتٍ ثقيلة كالرمال, وبفمٍ لم يُنجز قُبْلتَه بعد, أجلس ثانيةً فى مقعد الطائرة العائدة إلى بلادى, أبصر مدينة المنصور من أعلى كمرآة صقيلةٍ للروح لا تصدأ, أدرك كم أنا مغرقة فيها, أضع راحتى على قلبى وقد وشمتُ اسمها أبداً فيه : بغداد مَنّى وسلواى..