Friday 7 March 2014

فقيد ثقيف


«في جمُعة فاض نورُها مسافة عام، أشرقَت بملاءة (اللف والبيشة) وذلك قبل توافد المصلين.. دلفت إلى (العطارين) واشترت نوعًا جيدًا من البخور.. زاغت عيناها على قطع الذهب الزائفة المرصوصة فوق العربات الخشبية ومناديل (بأُويَة) وردية وزهرية وبدلة للرقص همّت بشرائها ولكن سرعان ما تراجعت عن الفكرة.. صعدت فوق السلم الخشبي العتيق وكعباها يضربان بغنج في الخُف الأسود اللامع.. يشكو الشيطان من رنة خلخالها بأجراسه في آذانه.. رفعت البيشة من فوق وجهها والعرق يصبُّ فوق وجنتيها الحمراوين نداه الدافئ.. تناولت يدُها البضة من المشربية البحريّة (قلة) من طمي أسوان، انساب الماء المثلج المُزهّر - طوعًا وكرهًا - في قناتها البيضاء بين نهديها.. أشعلت البابُور وراح فحيحُه يبخُ في بياضِها.. نثرت البخور الأسود فوق لوح الصاج الصدئ.. ظلت (عين العفريت) تتوهج فتنقبض وتنبسط مع النار وسط ذرات البخور.. صنعت (عروسة) من الورق ثم وخزتها بإبرة طويلة وهي تردد أسماء الحُسَّاد ثم قذفتها للنار وهي تحاول حرق مخاوفها للأبد.. تستعيذ من الجن ومن عينه التي لا تريد أن تُخمد.. ذلك الذي يؤرقها ويحرمها - حتى في الحلم - من رجلٍ طويل وسيمٍ حاول مداعبتها ذات مرة عند العَطفة القريبة.. قبضَت على الطاسة الساخنة بقطعة قماش وظلت تدور بها في أنحاء البيت مرددة (الرقية) حتى وصلت إلى سريرها فقالت: (يا رب.. أنا فَرشتي مش جنة.. وأنا مش حورية هربانة من رضوان.. بس قلبي بياضه دافي زي الشمس وأسود حتة فيه مسك)».
«فَسِّر يا بن سيرين».. قال «زكريا» لصاحبه «محمد» متنهدًا.
قال «محمد» ضاحكًا:
- ماذا أفسّر يا أخي؟ هذا ليس حلمًا.. لا يكفيك أن تشتغل بالكتابة بل تمارسها أيضًا في أحلامك.
- صدقني لا أدري لِمَ يتكرر هذا الحلم معي بكل تفاصيله.. تلك المرأة الحلم تغزو قلبي وعقلي، لا مُعادل لها بين بنات حواء.
- (غامزًا) ابحث عنها إذًا بينهن.. فيهن..
- (لائمًا) بحثتُ حتى شكاني قلبي.. و«أوشكَت قلوبُ ذوي القربى له أن تُنكِرا»..
- يا «زكريا».. حاشا أن أنكرك، ولكن انظر لنفسك.. رجل شارف على الأربعين يرفض الزواج رفضًا مبينًا.. تأكل عليه الكتابة وتشرب.. إلى متى هذا الهوس بمجرد ظل؟
- آه.. لا أحد يفهم.. من هوسي أن أحكي لك حال قلبي..
- إلى متى أيها المجذوب؟
- أتظنني قديسًا يا أحمق؟ لم يكفّ قلبي عن الخفقان عند رؤية «سِمّانة» إحداهن، أو شفتين مضرجتين بدماء القتلى.. أو صدر متكوّر حتى يفور التنّور بي، ولكن أبدًا لم يقُم طوفاني بعدُ! كنتُ إذا تغشّيتُ إحداهن أصبتُ منها كل شيء حتى إذا جلستُ بين رجليها ارتعدتُ وقمتُ عنها..
- (ضاحكًا) أحمق..
- (يُخرج مالاً من جيبه ويضعه فوق المنضدة الصغيرة) لا فائدة من حديثي معك.. سلام.
- انتظر يا مجذوب (راكضًا خلفه).
في اليوم التالي، استيقظ «زكريا» متعكر المزاج، أشعل سيجارته الأولى محدقًا في جدران حجرته العارية إلا من لوحة «دانييه» المقلّدة لـ«جوستاف كِلمت».. تلك النائمة المحتالة البهيّة.. تباطأ وهو يحاول جاهدًا أن يثني نفسه عن موعد الليلة. «تبًّا للسياسة ولفضائيات الثراء السريع».. قالها لنفسه؛ فبعد الانتهاء من الكتابة اليومية في مكتبه لا يستطيع أن يرى أحدًا، ويقتله الحنين إلى سريره كي يبكي نفسَه وحيدًا.
قاد سيارته بعد انتهائه من عمله اليومي وقد أشعل سيجارته متأملاً «حِس» الريس حفني - منشده المفضل - الذي لم تبرح أغنياته السيارة القديمة ثم الأحدث ثم الأخيرة منذ أكثر من 15 عامًا، في كل مرة يسمعه فيها يمتدح إقدامه وشجاعته في نفسه لأنه - وهو الصعيدي - قد تزوج من السكندرية «روح الفؤاد» مطربة أغنية الكورنيش «دِنجا.. دِنجا» مِصداقًا لحبها، يغني:
«أنا ليه أبدّل عسل بخَلْ؟
وأنا مأصّل أب وخالْ..
أصل الكريم عمره ما يبخلْ..
وأنا نفسي أفرح زي الناس».
يمرّ بباله حديث صديقه الصدوق بالأمس ويحاوره في ذهنه من جديد غاضبًا: «تتهمني بالجنون أيها الأحمق! وماذا لو أخبرتُك أنني لا أحب الكائنات الأنثوية المرتّبة؟ إنهن غبيّات.. أقول لك ذلك لأنني أحرص على مراقبتهن جيّدًا.. تترك الواحدة منهن منزلها في كامل أبّهتها وزينتها.. تحرص على استدارة حِجابها وإحكامه حول وجهها بشكل منتظم ومتساوٍ.. تبدو نظيفة جدًّا وأنيقة جدًّا وجميلة جدًّا، كي لا تعطيك فرصة للنقد، كي تدفعَك لتؤمن أن لا عيب فيها»..
تتهادى على الرصيف الموازي للشارع المليء بالنفايات بعد انتهاء مسيرة يوم الجمعة فتاة ترتدي جلبابًا منزليًّا فضفاضًا تمسك طرفه السفلي بإحدى يديها فيرتفع قليلاً ليكشف عن جزء من ساقها.. شعر «زكريا» بقلبه يرتفع مع طرف ثوبها إلى «ماروم» السماء الثالثة النورانية، طرحتها تتدلّى على الجانبين بغير إحكام.. تكاد تطير من فوق رأسها.. تمنى لو طارت إليه والتقطها ليتنفس عبيرها.. إضاءة الشارع الخافتة تعتمد على أعمدة نور نصف مضاءة تخفي جانبًا كبيرًا من وجهها.. لم يتبين ملامحها وشعر أن قُوَى عُليا قد رأفت به كي لا يُجنَّ لو أبصره..
لم يحاول «زكريا» تحليل الحالة التي انتابته، كل ما فعله أنه أوقف سيارته الفارهة وهبط منها ليسير خلف الفتاة، حاول أن يبطئ الخطى كي لا تلحظ اقترابه، دخلت إلى دكان صغير لبيع الألبان ثم طلبت جُبنًا و«زبادي»، اقتحمته رائحة اللبن التي يكرهها وشعر بالغثيان، خرجت الفتاة في مواجهة «زكريا» تمامًا وهو يضع يده على فمه متأهبًا للتقيؤ، شعرت باضطرابه فطلبت من البائع كرسيًّا له - وهي تمسك بذراعه - وكوبًا من الماء المثلج. يشير «زكريا» بيده محاولاً الابتعاد عن الرائحة، هرع البائع خلفه بالكرسي، أجلسته الفتاة وقد جذب نفسًا عميقًا ليدافع به الشعور المقيت، بدأ يشرب كوب الماء وقد شعر بارتياح وظل ينظر إليها على إيقاع حركات بلعومه، يدعو كي تبتسم هاتان الشفتان ليختطف من زاويتهما قطفتي ورد ومن رمانهما سلامَ عاشقين في قبلة طويلة، ومن شعرها المختبئ تحت الحجاب انفلاتًا على صدره ومن عودها الغض الطري الشهي ارتعاشة حب في ليلة قمرية..
- شكرًا جزيلاً لكِ.. شكرًا جزيلاً يا سيدتي. أرجوكم تقبلوا اعتذاري.
البائع: لا شكر على واجب يا بك.
الفتاة: ألف سلامة عليك يا بك.
أخرج «زكريا» من جيبه بعض المال ووضعه في جيب قميص البائع.. «لا لا شكرًا» البائع رافضًا، ثم يقبل داعيًا لـ«زكريا» بسعة الرزق.
- تفضلي يا سيدتي، سأوصلك إلى المنزل.
قالها بشهامة استغربها على نفسه؛ لأنه لم يفكر في معنى سيئ.
- لا شكرًا يا بك.. بيتي قريب..
- مستحيل، لا بد أن أطمئن عليكِ وقد كنتُ سببًا في تأخيرك.
مشيرًا إلى سيارته «تفضلي».. شاهدت الفتاة السيارة الفارهة، فكّرت أن ركوب مثل تلك السيارة قد يكون جزاء الإحسان، لِمَ لا والرجل يبدو كريمًا وطيب القلب؟ مشت على استحياء باتجاه السيارة وفي يدها الجبن والزبادي، فتح «زكريا» لها باب السيارة وأخذ يرقب حركات جسدها من تحت العباءة وهي تترجّل بداخلها، تعثرت قدمها اليسرى فانفلت خفها منها، طأطأ «زكريا» رأسه والتقطه وهو يقاوم رغبة جارفة في إلباسها إياه، شعرت الفتاة بالحرج وقالت:
- العفو يا بك.. لا يصح أبدًا.
صار وجهه، وهو منخفض الرأس، قريبًا منها، تسرَّبت رائحتها إليه، شعر أنه يشتمّ زهرة متعرِّقة بنداها، لامست يده قدمها واضعًا الخف في دواسة السيارة أمامها، لا أثر لشقوق في قدمها الصغيرة.. لا أثر لشقوق في روحها العَجماء الربانية كذلك.
جلس في كرسي القيادة مزهوًّا بحضورها، سألها: أين تسكنين؟ قالت: آخر هذا الشارع... ثم.. أقول لك؟ إلى آخره فقط لو سمحت..
- أنتِ تخشين أن يراكِ أحد معي.. أليس كذلك؟
- بلى.. اعذرني..
- لا عليكِ، هل تريدين أن نتجول بالسيارة قليلاً حول الحي؟
- .. سأتأخر..
- نصف ساعة فقط.. أرجوكِ.
- وهو كذلك..
- أشكرك من أعماقي.. ما اسمك؟
- «رقيّة» (بصوتٍ خفيض).
- إنها هي.. والله بعقدِ الهاء إنها هي (محدثًا روحه).. أنتِ جميلة جدًّا يا «رقية».. ماذا تشربين؟
- شكرًا، أنت تجبر بخاطري يا بك.. أي شيء على ذوقك.
- سأختار لكِ شيئًا يشبهك.. «كوكتيل» من الفاكهة كلها..
تبتسم وتتناول الكوب الكبير من يده.. يشاهدها وهي ترشف من الكوب بواسطة «الشاليموه» الطويل، تُحتجَز قطع المانجو الكبيرة عن الصعود إلى شفتيها، تصرّ على جذبها لأعلى، حتى تُصدر صوت الخواء الأخير، فتشعر بالإحراج.. «شكرا يا بك».
- هل يمكنني أن أطلب منك طلبًا يا «رقيّة»؟
ترد في ارتباك:
- تفضّل.
- هل تسمحين لي بتقبيل يدك؟
تُظهر «رقية» خجلاً واضحًا يصعّد من خديها حتى أذنيها، تلمع عيناها فتزيد «زكريا» هيامًا وشوقًا، ثم انعقد لسانها ولم ترد.. يقرّب «زكريا» يده من يدها اليسرى، يلامسها بأنامله كأنما يكتشف خلقًا جديدًا، يرفعها إلى شفتيه الداكنتين من أثر التدخين الشَّرِه، يشعر بمقاومة خائبة منها، فيتجاهلها ويتحسس جلدها بهما وتداعب شفتاه زغبَها الرفيع الأشقر، يطبع قبلاته الواحدة تلو الأخرى بخفة كَمَن يتلمّس طريقًا إلى الجنة، من أعلى أظافرها وحتى الرسغ، «رقية» صامتة صاخبة تحاول أن تلملم أجزاءها التي بعثرها تقبيل «زكريا»، لم يقبّل أحدهم يدها من قبلُ، يتناول يدها الأخرى فتمنعها عنه بإصرار، يسائلها بعينيه عن السبب فتشير إلى خاتم الزواج..
- أنتِ مخطوبة يا «رقية»؟
- «مكتوب كتابي» (بنبرة عميقة من الحزن).
شعر «زكريا» بوخزٍ في صدره، هبطت عبرة لم يقاومها ثم فاضت العين الأخرى بالدمع، ثم بدأ في تصديق الهاجس الذي يتلاعب برأسه أنه لم يصِبه عشق مفاجئ فحسب بل أصابه مسٌّ من روح «فقيد ثقيف»، ذلك العاشق الآبق من الأهل والصحبة وحبيبة لم يدرِ أنها زوجة أخيه!