Friday 3 January 2014

الزمن صفر



"الأجرة يا حضرات" ..قالها سائق الميكروباص ضارباً التبّاع الصغير بقبضةِ يده اليُمنى بعد إطفاء سيجارة البانجو ,تحفّز جسد الطفل الهزيل لجمع المال من الركّاب ..صاح السائق ثانيةً بصوتٍ متحشرِج , وقد التف بجذعه إلى الخلف بحركةٍ رشيقة ثم إلى الأمام سريعاً وقد ظهرت الجروح الغائرة فى أكثر من موضع فى وجهه  :"الكاسيت بايظ ..كلام فى السياسة ممنوع يا حضرات" ثم تمخّض بعمق عبر النافذة  ..,"أحسن حاجة يا أسطى والله " ردّ أحد الركاب وهو يتصفّح الجريدة اليومية ..موظّف فى الأربعين من عمره يجلس بجواره يختلس النظر إلى المانشيت  :" جهة سيادية تناقش ربط نهر الكونغو بالنيل " يتثائب ثم يهمس : " إلا صحيح حكاية نهر الكونغو دى يا أستاذ؟" 

-راكب 1:" إلا صحيح يا أستاذ ! ده مشروع قومى ..أهو مكتوب أهو :المصريون قادرون على شق قناة تربط بين نهر الكونغو وأحد روافد نهر النيل من أجل نقل المياه إلى مصر عبر جنوب السودان.." 

-راكب 2: "الله الله ..طب ممكن تفهمنى يا أستاذ ؟ أصلى مش فاهم ..".

-راكب 1:"ما هو لازم نحل مشكلة سد النهضة اللى اثيوبيا بتبنيه ..مرسى الله لا يرجعه فضل يقول للستات متغسلوش وماتستحموش وقال ايه زوبعة فى فنجان, لكن السيسى أهو هيحلها ..".

-راكب 2:"أيوة هيحلها ازاى بقى ؟"

-راكب 1:"الجيش قالك ايه ؟ اتصرف ..هنضخ مياه نهر الكونغو فى أنابيب توصل لنا احنا والسودان وتوّلد كهرباء وتخضّر الأرض وتزوّد حصة المياة بتاعتنا أضعاف ..".

-راكب 2:"يا فرج الله ..الله عليك يا سيسى " .

-راكب3 :"استنوا بس ..هو إحنا هنلحق ؟ ده اثيوبيا دخلت تعديلات على سد النهضة هتخلى النيل الأزرق يجف بعد 3 سنين!" ..أحد الركاب معترضاً ..
فتاة فى العشرين تلتقط سماعة الأذن وتلتفت إلى الطريق عبر النافذة الزجاجية وتبدأ فى تحريك أصابعها مع إيقاع الأغنية ..حاولت فتحها  فتتحرش عينا السائق فى المرآة الجانبية بشفتيها, تغلقها ..

-راكب 4:على يمينك يا أسطى ..يصيح أحد الركاب من الخلف مقاطعاً حديث النهر الكنغولى والمصرى ..يتجاهل السائق نداءه ويتجاوز المحطة , يصيح الركاب الواحد تلو الآخر .."يمينك يا أسطى" ..فيتوقف السائق ويهبط الراكب ثم يصعد شاب يحمل بعض الكتب ويشعر بارتياح عندما يجلس بجانب الفتاة التى تضع سماعة الأذن ..تنتبه إلى لمسة كتِف فترمق الشاب بنظرة حادة تتوقع اعتذاره, تتلاقى عيونهما فيتلاشى الغضب فجأةً من وجهها ,يعتذر  :"آسف " ..تردّ الفتاة: "ولا يهمك" ..

-راكب1:"يا أستاذ بقول لحضرتك هنفتّت الحجارة اللى حايشة النهر بمضخات بنفس الطريقة اللى هدمنا بيها خط بارليف ..".

-راكب 5:"بس دى حجارة مش ساتر ترابى ..! " .

-راكب6:"يا أستاذ ريّح دماغك ..مفيش فايدة م الكلام معاهم.." يقول أحد الركاب  بتهكّم..".

-راكب1:"وانت ايش دخلك فى الكلام ؟ "..

-راكب 6:"هقول ايه حسبى الله ونعم الوكيل فيكم ..إلهى تتهد فوق دماغ الكل  "..
السائق :" انت بتدعى على مين ؟ واحنا ناقصين ؟ انزل م العربية ..".

-راكب 6:أنزل يعنى ايه ؟ انا دافع لك فلوس مش راكب إحسان ..

يجذب السائق التبّاع من ملابسه "ارميله فلوسه يلا ..شكله منهم" ..فرملة قوية إثر توقف الميكروباص بشكل مفاجىء يُفزع الجميع وسط الصيحات :"انزل يا عم متعطلناش ".

-"أنا نازل مش خوف ..نازل عشان مش عاوز أقعد مع اشكالكم " .

السائق شاعراً بنشوة الانتصار يمطر الرجل بوابل من الشتائم , راكب 1 و2 يتضامنان معه بالسباب ثم يستأنف الرحلة ..

تحرك الفتاة شفتيها مع الأغنية  :"مشاعر تشاور تودع مسافر مشاعر تموّت وتحيي المشاعر ... ", تحاول فتح النافذة مرة أخرى فبدأ يطاردها رماد سيجارة السائق ليصعد باتجاه عينيها ويتطاير نحو عدستيها اللاصقتين, فأغلقتها على الفور . يختلس الشاب الجالس إلى جانبها نظرةً خاطفةً على وجهها متظاهراً بمراقبة الطريق , تلمحه وقد دخل فى مجالها البصرى , تشعر بالزهو وترطّب شفتيها برضابها لتزداد لمعاناً فوق لون أحمر الشفاة الباهت , تفتح حقيبتها وتلتقط المرآة الصغيرة من القاع وتحدق فيها بحرص دون أن تُخرجها من الحقيبة .

 يلمح السائق على يساره  كتابة سوداء فوق جدار :" مومس قِباء ..رقم التليفون ..." , يبطىء السرعة حتى يكتب الرقم على هاتفه المحمول ..يتّصل :"هذا الرقم غير موجود بالخدمة ...." يسب التبّاع: "وشك فقر "..

-راكب 1 : السيسى مش هيغلب ..هيضرب السد بالطائرات ..

-راكب 2 : راجل زى عبد الناصر ويعملها .

-راكب 1 : طبعا ..مش اذا كملوه أصلا ؟ عندك اسرائيل وقطر بس هى اللى بتمول السد وكله انسحب ..

-راكب 5: واحنا هنفضل لحد امتى عايشين ع الاحتمالات؟ امتى هيكون فيه حلول سريعة تنقذنا م اللى احنا فيه ؟

-راكب 1 : أهى الانتخابات ع الأبواب وأول ما السيسى يمسك كل المشاكل دى هتتحل ان شاء الله ..نديله فرصة بس.

-راكب 2: يارب السيسى يترشح ..

-راكب 1: يااااااارب ..

الموسيقى المتسللة من هاتف الفتاة لا يُسمع منها سوى الإيقاع الممتلىء بالخشخشة , تنهض من مكانها وهى تصيح بالسائق :"نزلنى ع اليمين هنا يا أسطى" , تحتكّ ساقها برُكبة الشاب فيشعر بقشعريرة تسرى فى جسده ..أطلّت برأسها نحو الباب الجرّار وقد انحنى جذعها إلى الأمام بينما يتفقد أغلب الركاب ظهرها فلربما تعرّى جزء منه بفعل ملابسها المرفوعة وقت الانحناء , أخفقت طموحاتهم اللحظية لأنها كانت قد جذبت سترتها إلى أسفل فى الزمن صفر ..

No comments:

Post a Comment