Wednesday 27 November 2013

الهيبّية ..والمكرميّة ..

أنوى أن أشترىَ لها هديّةً من الفِضّة مطعمةً بالأحجار الكريمة ..كَم يروقُ لها هذا المعدن المصرىّ القديم ..سوارٌ فضىّ فوق لُجين رقبتها..أقل شىء أقدمه لها بعد أسبوعٍ كامل أعارتنى فيه جسدها ..فى الحقيقة لم أكن أحتاج أكثر من ثلاث جلسات ..ولكن ...!
رأيتُها فى أكاديمية الفنون , إحدى إناث "الهِيبّيين" أمامى بثوبٍ فضفاض ,بذلك الحذاء الرفيع الذى يبرز قدميها بشكلٍ مثير ..شعرها منسدل مطيع بلون الكستناء وعيناها الواسعتان اللتان لا يمكن أن يسعهما وجه ولا حتى وجهها ,شعرتُ بأن لهما امتداداً آخر خارج حدود بصرى القاصر.. ياقوتة حمراء مجازاً أسموها شفتين ..مثلث برمودا الذى فُقِدتُ بين إحداثياته: "ما بين كتفيها ..ورأس المثلث عند منبت نهديها " ..
بدافع من الشجاعة اللحظية التى لا تأتى كثيراً طلبتُ منها أن أرسمها ..فَعَلتْ شيئاً عجيباً يطلقون عليه ابتسامة ..إنها "طاقة " من نور فُتحت لنبىّ..ثم قالت : نعم ..ثم استرددتُ بصرى عندما ذَهَبَتْ ..
استقبلتُها وجميع أفكارى تصبُّ فيما هو غير عملىّ أو احترافىّ ..ولكنّها بَدَت ساذجة وبريئة حدّ الدهشة , رغم كل شىء ..رغم صدرها العاجىّ العارى وظهرها المكشوف الذى زيّنت وسطه تلك السلسلة الطويلة المنتهية ب"عقيقة" قانية ..رغم تلك النظرة غير المكترثة بالعالم ..رغم شعورى بأنها تشتهينى ..
جَلَستْ فى مواجهتى بأريحية شديدة وأمسكت بحقيبتها التى صُنعت من قصاصاتِ كلِ الألوان ومن خامات متداخلة من الجلد والستان السميك والكتان , أخرجت بعض الخيوط الرفيعة البلاستيكية الليّنة ثم رفعت عينيها مباغتةً عينيّ تلتهمان أبعادها فقالت :
- " ألن ترسمنى ؟ " ..
- بلى , ولكننى فقط أجهز ألوانى ..
-(وهى تغزل خيوط البلاستيك سوياً تستحضر الخطوة الأولى "تذكرى أن تربطى عقدة مزدوجة") حسناً , لقد رُسمت من قبل ..كثيراً ..لا أدرى ماذا ستضيفه إلىّ تلك المرّة ..
-ربما ..أتمنى ..      
-كيف تريدُنى أن أجلس ؟
-لا بأس بتلك الجِلسة وأكملى فقط ما كنتِ تفعلين .
-سأصنع أسورة صداقة من أجلك..!
هل تتهكّم علىّ تلك الفتاة؟ أى صداقةٍ تلك إن كان قد تملّكنى نزقٌ تجاها جعلها تأتى إلى بيتى كى أرسمها !
-أعرفها جيداً ..كنّا نصنعها فى فترة المراهقة ..ما الذى ذكّركِ بها ؟
-(تضحك) أنتَ لا تعرفنى ..لا تعرف حتى اسمى .."نسرين " .
تأملّتُ سوار زهور النسرين الذى يلتف حول ذراعها وقلت : أريدُ أن أعرف نسرين ..

-(خذى الخيط الأسود واستمرى فى الربط باتجاه الوسَط حول الخيوط البيضاء والحمراء والوردية) لابد إذن أن تزور بيتى ..
-سأزورك بالطبع ولكن أى الأسرار تخبئين فى بيتك؟
-أخبّىء "المكرميّة"..
-أنتِ من سالف العصر والأوان ..! هل مازال يحتفظ أحدهم بالمكرميّة ؟
-لا أقصد تلك فحسب ..كل بيتى مغطّى ومحشوٌ بعُقَد المكرمية ..أدمنتُها صنعاً وتحديقاً..حتى ملابسى لابد وأن أقحم فيها غرزى المفضّلة .
معقدة إذن ..حظى عسر ..ولكنها سَتَلين مثل خيوطها تلك..يكفى أن تلمِح إلى زيارتها فى بيتها..سأحل عُقد مكرمياتك واحدة تلو الأخرى ..
-ممممم.. وما السر ؟

-(كررى الخطوتين الأولى والثانية ,واربطى الخيط الأسود من اليسار إلى اليمين ثم اربطى من اليمين إلى اليسار) ..ربما كانت جدتى هى السبب ..امتلأ بيتها الأنيق بالمكرميات ولطالما راقبتُ أناملها وقت النسج واشترت منى أولى قِطَعِى وعلّقَتْها فى ركنٍ بارز لديها فى صالة الاستقبال بجوار الشرفة.. كانت تتدلّى وتحمل نباتها المتسلق الزاحف إلى أعلى  وبات جدى يقف فى الركن ذاته بعد وفاتها مرتكناً إليها..
 كنتُ أراقبه من الشرفة المقابلة ..لم يكن من الضرورى أن أسمع جلبةً للموت بداخله لأدرك أنه حزين  ..لم تختلف النافذة كثيراً ..مازالت الستائر المخملية الثقيلة بلون دم الغزال تهتز بعنف من خلف الزجاج الأبيض السميك إذ ينساه جدى مفتوحاً ..وقتها كان يظهر وجهها عندما تغلقها ويتلاعب الزجاج المخرفش بملامحها فيزيدها تقضيباً ..ظَل الضوء الخافت المنبعث من الداخل إلى الشرفة يشكل مع ظلال البوتس المتسلق  أغنية ليلية باكية ..وتلك الأغصان الممتدّة من شجرة التوت فى الأسفل مازالت تحتوى الشرفة بين أوراقها ,لايزال الشارع هادئاً إلا من صخب ثلة الشباب المتسكع على الأرصفة ..وجدى على حاله يدخّن فى الخفاء كى لا يضايقها.
-سأقول لكِ شيئاً متكرراً ..أنتِ جميلة ..
-أعرف ..ولكن –على أية حال- فى الإعادة إفادة ..
-تشبهين الأندلسيات ..اللاتى خلبن لبَّ العرب ..
-لو كنتُ فى الأندلس لأحببتُ أن أصير نساجاً "صاحب طراز" ..
-لو كنتُ فى الأندلس لاخترتُ مهنة شريفة كالكتابة أو الطرب ..
-تحب اللهو ..
-بالطبع ..وفى مصر ؟
-كنتُ سأقف على دولاب الخليفة , أعطّر ملابسه بالياسمين ..والنسرين ..
-كنتِ ستصيرين سلطانة ..لا ريب .
-بل كنتُ سأجلس أواسى النسّاج الذى أهداه عقله إلى عقد المكرمية ..
-المكرمية مرةً أخرى ! ولماذا تواسيه ؟
-(منهمكةً فى الغزل )بالطبع كان خائفاً من قدوم "المَغول" ..بل كان يرتعد ..أرى وجهه فى كل عقدة أغزلها ..يقتله انتظار الموت الوشيك ..يئتنس بصحبة خيوطه المجدولة السميكة ..يزخرفها بآماله وخيباته ..
-أتراكِ أيضاً تحبين البحّارة  لأنهم "يعقدون" المكرمية؟
-أحب ذلك البحّار المحموم الذى يهذى باسم حبيبته فى قلب السفينة .. ..وأعشق القراصنة الشرفاء ..
-وهل أبداً هناك قراصنة شرفاء ؟
-نعم ..قراصنة المورسكيين ..


-ملابس "الهيبّيين" التى ترتديها لا تتناسب مع تقديرك للمورسكيين ..
-على أية حال أنا هيبّية المظهر أندلسية الهوى ..
(أعيدى الخطوات من 1 إلى 3, ابدأى دائما بالخيطين على الطرف واحبُكى نحو الوسط ,استمرى على هذا النحو ستحصلين فى النهاية على هذا الشكل )  ألن ترسمنى ؟!
-(مبتسماً) بلى , مازالتُ أجهّز ألوانى ..!

2 comments:

  1. Replies
    1. سلمتِ لى صديقتى الحبيبة ولا حرمنى الله من نقدك وإبداعك :)

      Delete