Sunday 3 November 2013

نظرة يا متولى

                                

فُتِح لى الباب المتهالك وكانت جارتى القديمة قد ودّعت زوجها الوداع الأخير وجلست فى بيتها لتتلقى فيه العزاء, بدا وجهها هادئا رغم احمرار عينيها تكسوه تلك الابتسامة التى تنفلت ولا تدرى من أي منبعٍ رقراق طَفَت وسط صحراء الحزن تلك, الحزن يبدو أحجيةً يستعصى علينا فك طلاسمها , وجه المرأة كان يشعّ وكأنه قد كشف تلك الطلاسم ثم ابتسم ابتسامة العارف..
لم أجد ما يُقال طيلة فترة العزاء والشيخ مصطفى إسماعيل يرتّل القرآن ترتيلاً , أما تلك الدموع التى تستحضرها أغلب النساء المتّشحات بالسواد  دفعتنى إلى الشعور بالخجل ,إظهار الأسى وبذل البكاء والحديث عن حَسَنات المتوفى وما قدّم للأيتام والمحتاجين وحسن معاملته لأهله وأقاربه ومعارفه أحاطت بى من كل جانب ولم أستطع المشاركة فى أي منها .تأملت صورته المعلقة على الجدار المواجه فوجدتُه باش الوجه كما عهدتُه وأنا صغيرة وعلامة الصلاة تعلو جبهته , مرّ وقت طويل قبل أن أدخل بيت جارتنا وزوجها المتوفى ,أنا -ابنة الدرب الأحمر- وتشاء الأقدار كى أعود اليوم من سفرى الطويل لأجدها فى حالة حداد .

أظهرت عند استقبالى ترحيباً كبيراً -رغم حالِها-أصدقَ من ترحيب القريبات المزغردات اللاتى قد زاغت أبصارهن على غرفة نومى لمشاهدة الهدايا المخبأة فى حقائبى . بمجرد عبورى عتبة البيت وجدت فى مواجهتى تلك الأريكة "البَلَدى " ولا يبدو أنها حتى قد زُحزحت من مكانها , تكسوها المفارش البيضاء ..كنتُ اضطر إلى القفز إليها كى أجلس لعلوّها , أعود  بظهرى إلى الخلف  فى حركة تمثيلية لأستند إلى الوسادة القطنية العريضة, ثم أستدير لأشاهد من النافذة الخشبية الطويلة  سبيل َ"رقية دودو" وضوء الشمس قد سُكب فوقه , وضجة الشارع ومناداة الباعة ودقدقة النحّاسين فى شارع سوق السلاح  فى آذانى ,وتلك المنضدة الطويلة كما هى, اكتمل تآكل أطرافها حول دورانها ليتعرّى خشبها والقشرة الزرقاء المنقوشة المُلصَقة عليها التى كانت تعجبنى مُسح جانب كبير منها .

 كان الزوج يستقبلنى بأقراص النعناع البيضاء فى غلافها الأخضر لآخذ قطعة أو قطعتين وأنتشى عندما تلذع لسانى , وجارتنا تجلس إلى جانبى بمنديل أسود رقيق يعصّب رأسها تقطع الخضراوات أو تخرّط الملوخية فى صينية عريضة نحاسية فوق المنضدة الزرقاء المزركشة, وبعد قليل يتناول الزوج "حقيبة" الراديو البنيّة المعلّقة فى مسمار الزاوية ويبدأ فى ترديد القرآن وراء الشيخ مستمتعاً  كأنه يغنيه, وتلك العملات الورقية من فئة العشر قروش والخمس قروش والتى كان يُخرجها من جيب تلك الحقيبة جديدةً لامعةً كأنها قد طُبعت لتوّها..
اختلطَ حُزنى على رحيله بفرحةِ أن أجد زوجته التى ربّتنى مع نساء كثيرات هنا , عجبٌ أن تسافر وتعود إلى الدرب الأحمر لتجد جيرانك القدامى أحياء, فإن لم تجدهم قد ماتوا تحت أنقاض بيوتهم المتصدعة بيتاً تلو الآخر ,كانوا قد هاجروا وتركوا الحى الآيل للسقوط بأكمله إلى مصيرٍ مجهول..
عشر سنوات فى الغُربة يا بنت سوق السلاح ,عدتِ وأنت تضعين الأحمر والأبيض وصار شعرك المجعّد بضفائره القديمة ناعماً خلاباً والفضل للكيراتين, ملابس غالية تحت العباءة السوداء المطرزة ومصاغٌ يكسو لحمك وملابس داخلية تشد القوام ..وشم الحاجبين ونفخ الخدين وهندمة الشفتين ..صرتِ "هانم" ولا المهندسة إجلال ..ما الفرق بيننا ؟ هى مهندسة ورثت بيتاً أثرياً تتغطرس به وأنا يتيمة طفحَت الكوتة كى أصير على ما أنا عليه الآن ..لم يكن يبهرنى شىء ..ابنة الدرب لو سافرَت ولفّت العالم بأكمله لم يستوقفها شىء ..عشنا محاطين بعظمة وأبهة أجدادنا ..أجمل البيوت والقصور وبركة أولياء الله الصالحين ..أيدينا خاوية ..نعم ولكن أصولنا لا تحتاج إلى إثبات ..لم يقنعنى هذا الأمير بريالاته المتدفقة  لبناء مستشفى أو تلك المتفضّلة بكناسة مالها على الفقراء فى هذا البلد ..لم أجد أكرم من عطف فقيرٍ على فقير ..غَرف طَبَق الجارتين الوحيدتين  –أولاً- من قِدر البصارة  ووضعه فى سَبت الخوص الذى كان يتدلّى إلى كفىّ و"أم خليل" تنادينى "التقطى ما فيه كى أرفعه ..البصارة سوف تبرد"  ..بخار الماء يتصاعد منه وريقى لا يكاد يتوقف عن التدفق من فرط الجوع ..طرحة أمى السوداء تحتضن بضع أرغفة الخبز ..نأكل بشهيّة كبيرة ..تلك الشهية لم تعاودنى ثانيةً منذ تركتُ الدرب..ربما لأننى حرصت ألا أجوع أبداً ..ولم أرحل إلا عندما كَبُر فمى ولم يعد يشبعه نصف طبق بصارة ..


دخلت جارة أمى الحبيبة إلى الغرفة الداخلية ..أعرف تلك الحجرة جيّدا ومفرش السرير الوردى الذى كان يظهر فى الأعياد فقط ..خرجت ومعها شىء ملفوف ودسته فى حِجْرى ..فتحتُه فإذا به طرحة أمى وقصاصة من كفنها ..! غطيتُ بها وجهى وقبضت يدى بأظافرى المطلاة على قطعة الكفن ..شعرت بقلبى يُعتصَر وانهمرت دموعى ..كم اشتقتُ إليها وإلى همسها بالتسبيح بعد صلواتها ..كم آلمنى أن تموت وأنا بعيدة ..لماذا ؟
مصففة شعر أغنى نساء المملكة تبكى ..! تلك التى لا أحد يقاوم نِكاتها ونوبات رقصها المفاجىء أمامهن ..بكيتُها كم لم أبكِها منذ أربع سنوات ..كما لم أبكِ هذا الوغد الذى تركنى ليتزوج ابنة صاحب المكيروباص الذى يستأجره عليه ..كان يمسك بيدىّ ويحتضننى عندما نتسلل خلسة هناك لبيت الرزّاز..كان يغنّى لى بصوته المتحشرج عندما أشترط عليه شراء لوازم الزواج من الغوريّة :
" يا رايحين الغورية .. هاتو لحبيبي هدية ..
هاتوله توب بالقصب.. يليق على رسمه ..
انقش عليه العجب .. واكتب عليه اسمه..
والطرحة ويا الشال .. وإسورة وخلخال..
نقوا وشوروا عليا.. يا رايحين الغورية..
هاتوا لجميل الاوصاف حلق بدلاية..
فوق الخدود رفاف يحكي الهوى معايا..
ما قلت له وقالي.. نظرة يا متولي..
دا الحلو راضي عليا.. يا رايحين الغورية"
 أحلم معه أننى سأذهب إلى حمام السكريّة قبل الزفاف وأحلم ببيت يطل على الأزهر ..ظللتُ أحلم حتى صحوتُ على طردى من حياته ..




ابنة الدرب لم تكن لقمة سائغة فى أفواههم ..لا أحد يعرف أن دماء مماليك القلعة الذين فتك بهم محمد على وصلت حتى دربنا وصبغته بالأحمر لا تزال تصبغ وجوههنا وقلوبنا..عندما حكى لى الحاج عوض تلك الحكاية كمَن يحكى سيرة أبى زيد الهلالى قال لى إياكِ أن تدعىَ أحدهم "يرشك بالدم" ..ولقد فعلتُ يا حاج عوض ..

كفكفتُ دمعى ودسستُ كل ما معى من مال فى صدر جارتى ونهضتُ مسرعةً ثم هبطتُ على سلالم العقار وكل شىء يرتجّ تحت قدمىّ وكأنه على وشك السقوط ..لمحتُ رجلاً بعكازين يتحدث إلى صاحبه بصوتٍ مسموع : "صدقنى لا أريد شيئاً من الدنيا , كل ما أريده أن يبطّن لى أولاد الحلال العكازين كى تلتئم تلك القُرَح تحت إبطىّ .." ..

No comments:

Post a Comment