Sunday 27 October 2013

زهرة الرابعة مساءً


                               


تأخّر كثيراً أن تربّى زهوراً , إضافةً إلى أنها لم تفكر من قبل كى تقتنىَ حيواناً أليفاً ,ولَكَم أشفقت على الطيور حبيسة الأقفاص ,وعلى السلاحف المعمرة التى تسكن بيوت بعض أصدقائها.. إنها لم تحرص حتى على تربية أظافرها , وكَم تعجبت منها جارتها الشابة الجميلة عندما استقلا المصعد معا وتأخّر صعوده لعدم إحكام الباب فجذبته بقوة بأظافرها غير مباليةٍ بانكسار أحدهم وصاحت  كمن تريد إيقاف جريمة "أظافرك!!", فلم تفعل شيئاً سوى الابتسام وغمغمت فى سرها بكلمات ساخرة..

على أيةِ حال, شعرت أنها تحتاج إلى تربية شىء ما يدخل السرور إلى قلبها , يغمرها احساسٌ بالوحشة تجاهه وترتبط به عاطفيًّا وتنتظر أن يكبر يوماً بعد يوم , ربما ادخرت سنينَ طِوال تلك المشاعر لكائنٍ من لحمٍ ودم ينبتُ منها ولكنه لم يأتِ بعد إلى عالمها المزدحم  وربما ظلٌ لشبح كان يطاردها دوماً كى لا تربى شيئاً, اسمه الخوف من الفقدان ..

فى أَوْج حماسها بالفكرة قررت تكوين حديقة صغيرة فى شرفة منزلها, وقامت باختيار النباتات بشكلٍ عشوائىّ وزَرَعها البستانىّ أمامها فى أحواض من البلاستيك, أصرّت على اختيار الياسمين البلدى وزهور أخرى لم تكن تعرف اسمها فقال البستانى أنها "الونكا" ثم اختارت لونين متكاملين من "الكوليوس" مع مجموعة من الزعتر وإكليل الجبل والشاى الأخضر ثم حوض من النعناع وأخيراً ذلك النبات الليلى  "مسك الليل" وقرينه "شب الليل" ..



بدت شجرة الفل القديمة غيوراً من الزرع الجديد النضر, فكفّت عن طرح وردها الأبيض وتساقطت أوراقها ويبُست فروعها , شعرت بالذنب تجاه الشجيرة فلم تكن تدرى أن ما حدث لها طبيعياً مع الخريف ..عكس الرَياحين والذى ربما يوحى اسمه بترحيب حاضن فقد كبر وبدا بفروعه الخضراء وبراعمه البيضاء أجمل وأعذب عطراً..

فى الليل, حيث تجلس فى شرفتها المزهرة ,يعطِفُ الهواءُ البارد مزيجاً من رائحتىْ الياسمين ومسك الليل , تراقب قيعان الأحواض لتحصى عدد الزهرات الساقطات وتقاوم رغبةً بداخلها فى التأثر, ثم تشرد طويلاً فى حلم تركيب مشربية خشبية مستديرة الشكل تحتضنها بهذا العالم الصغير ..موسيقاها الشرقية المفضلة تملأ المكان ثم تلتفت إلى زهور "شب الليل" التى تتفتح مع بداية انكسار ضوء الشمس , وتغلق مع الصباح وتمتلك بذوراً سوداء تفرزها فى وجه الدنيا ..تشتمّه للمرة الأولى فتصيح من فورها "فُل!!" ..عطرٌ من الفُل المركّز يفوح من الزهرات الصفراوات والحمراوات ..استولى عليها فضولٌ لتقرأ عن ذلك النبات فيُقاد إليها تاريخه بأكمله, "الجالابا" ,"زهرة الرابعة مساء " و "أعجوبة بيرو "  أسماء أخرى تُطلق  على النبات الاستوائى ..
                 

قادها البحثُ إلى أدباء وشعراء بيرو ,تُراهم ماذا قالوا عن "الجالابا"؟ تلك الأعجوبة المتمردة على ضوء الشمس ..هل سيلقبونها بعشيقة القمر؟  تتذكّر "ماريو بارجاس يوسا" الأديب البيروفى الحاصل على نوبل ,كيف لم تقرأ له من قبل؟ مع الصفحات الأولى لروايته "حفلة التيس" يبتدئها المؤلف بأغنية شعبية من "الدومينيكان":

الشعب يحتفل بحماس كبير بعيد التيس

فى الثلاثين من آيار قتلوا التيس  ..

أعجبها ذلك, فمن الطبيعى –بالنسبة لها - أن تُلهم موسيقى صادقة كلَ كتابةٍ صادقة ..البطلة تسمى "أورانيا " ..يالَه من اسمٍ رائع ..تغزّل فيه الكاتب أيضاً ..التهمَت الصفحات حتى صادفها ذلك المقطع على لسان الزعيم الأرجينتينى "بيرون" : 

"كن حذرا من القساوسة أيها الجنرال, فليست الأوليغارشية(حكم الأقلية)  ولا العسكريون هم من أسقطونى وإنما ذوو المسوح فتحالف معهم أو اقض عليهم دفعة واحدة"  ..

                       

فى مقطع آخر  : "يمكن للكولونيل أن يكون شيطانًا,ولكنه مفيد للزعيم فكل ما هو سيىء يُنسب إليه, بينما يُنسب الجيد إلى "تروخيو"(الزعيم) .. هل هناك خدمة وفائدة أكبر من هذه؟ فلكى تستمر حكومة لمدة 30 سنة لابد من وجود "جونى أبيس" يدس يده فى القذارة بل ويدس جسمه ورأسه إذا اقتضى الأمر ..إنه يحرق نفسه ويستقطب كراهية الأعداء وأحيانا الأصدقاء ..الزعيم يعرف ذلك ولهذا يستبقيه إلى جانبه ولولا أن الكولونيل يحمى ظهر الزعيم لما كان بالإمكان ضمان ألا يحدث له ما جرى ل"بريث خيمينث " فى فنزويلا و"بيرون " فى الأرجنتين و"باتيستا " فى كوبا " ..


مرة أخرى تقودها الأشياء الجميلة إلى عالم الصخب, والصراع الذى تفضّل أن تنأَى بعيداً عن ضجيجه, السياسة المهلكة مرة أخرى ..! لا مفر إذن ؟ ستجرب 100 سوناتة حب لبابلو نيرودا ..لا فائدة .. لأنه فقط بابلو نيرودا ..وكأن الأحاديث عن الثورات
وأصحابها فى كل الدنيا باتت تدور فى تكرارٍ أبدىّ ملل  ...




لطالما شعرت وكأنها تلك "النوتة" المنقرضة مرتّبة الصفحات حسب حروف الهجاء للإحتفاظ بأرقام التليفون , هل يستخدمها أحد الآن؟ .. نصف وزنها موسيقى ونصف عقلها جنون ..الطريق الذى تخوضه يومياً من البيت إلى العمل قادرعلى أن يُسقِم قطة عرجاء لا تجد ملاذا إلا الشارع ولكنها لازالت ترى فيه ما يُبهج القلب..تستنشق الهواء بعمق ولو كان مختلطاً بعوادم السيارات وعرق البشر وانكسار أحلام البسطاء ..

ستظل تبتسم لكل طفلٍ تربكه درجات السلم الكثيرة فيهبط مبطِئاً مرتكزاً بكلتى قدميه معاً درجةً ..درجة , وتقرأ بلا هدف وتكتب لصدى الصوت وتعشق الخيال وأبداً لن تهرب من الوحدة وستتلقّى - كما اعتادت- الحوادث العارضة  كرسائل من الله ..

 ستظل تتساءل : لماذا هى كذلك ؟ ولماذا لا يتغيّر العالم من حولها؟ 

2 comments:

  1. تسلم الأيادي .. جميلة جداً كتابات المدونة يا غادة .. ونصوصك وصورك القلمية أيضاً في صفحتك على الفيس بووك شديدة الثراء والعذوبة ما لم تتجاوزها.. ياريت تنشريها في المدونة .. وتسلم الأيادي مرة تانية. .

    ReplyDelete
    Replies
    1. شهادة أعتز بها من الفنانة الجميلة أسماء ..ألف شكر لكلماتك الرائعة وسأفكر بجدية فى جمع نصوص الفيسبوك ..نورتي المدونة :)

      Delete